قدرة بين المليشيات الطائفية والأجنبية. بيد أن التسرع في تحديد البنية النهائية للدولة السورية في هذه اللحظة الحرجة سيكون محملا بالمخاطر.
يعتمد تقرير السياسات الذي بين أيدينا على نقاش يجري منذ ربيع العام 2016 بين مجموعة من السوريين من خلفيات مهنية وجغرافية وإثنية ومذهبية مختلفة. ويحاول هذا النقاش تقصّي نموذج اللامركزية الذي يمكن أن يكون الأكثر ملائمة لسوريا، وهو يتألف من ثلاث أوراق.
بسمة القضماني تدعو إلى خطة بعيدة المدى للامركزية. فبينما يرى قطاع عريض من الكرد السوريين في الفيدرالية الطريق الوحيد لتحقيق طموحاتهم، تحذر قضماني من تقرير شكل الدولة المستقبلية منذ الآن، حيث الدولة المركزية تتهالك وقد فقدت سيطرتها على الكثير من أرجائها.
المبادئ: ينبغي تصميم الوسائل المؤسساتية لتعزيز تلك المبادئ والاتفاق عليها من الآن. وينبغي معاملة تطلعات الكرد كشعب باعتبارها تطلعات مشروعة، ولكن على الكرد من جانبهم أن يلتزموا بتحقيق تطلعاتهم عن طريق الحوار وليس عن طريق إعلان أحادي الجانب للحكم لذاتي أو الانفصال.
وقد تكون الفيدرالية خيارا مناسبا للحالة السورية ولكن سيتعين على السوريين أن يخوضوا مفاوضات مبنية على اعتبارات ومصالح عملية، وليس فقط على أسس التطلعات القائمة على أساس الهوية القومية، وأن يكونوا متأكدين من أن سوريا ستكون بلدا متماسكا وآمنا ضمن حدوده وجارا مسالما بين جيرانه.
وسيكون من الضروري لسوريا أن يكون لديها دولة مركزية قوية وفعالة في دمشق لكيما يُكتب النجاح للمسار اللامركزي الذي من شأنه أن يقود إلى الفيديرالية. إن الدول الفيدرالية الحقيقية لديها منظومة من المؤسسات الفعالة والمتمرّسة في المركز قادرة على تنظيم علاقات سليمة مع كل اقاليمها، وإلا فإن الفيدرالية لن تكون أكثر من قناع للتقسيم القائم على الأمر الواقع.
وعلى سوريا أن تحمي مبادئ المساواة وعدم التمييز في دستورها وأن تقرّ قوانين جديدة وتنشئ مؤسسات قومية، كغرفة عليا في البرلمان (مجلس شيوخ)، للتخفيف من تأثير حكم الأغلبية، وهيئة لمكافحة كل أشكال التمييز مع الصلاحيات الوافية لتنفيذ قراراتها. فلا شك أن من الضروري تحقيق تغييرات عميقة، ولكن ينبغي للمسار اللازم لتحقيق هذه التغيرات أن يكون مهما بأهمية الغاية منه.
ويقدم رياض العلي منظورا قانونيا لللامركزية ويتقصّى بعض النماذج التي يمكن تبنيها في سوريا المستقبلية. وهو يحذر من أن تبني القانون الحالي رقم 107 لعام 2011 للإدارة المحلية في صيغته الراهنة لن يفعل أكثر من تعزيز السلطة المركزية ونظام حكم القائد الفرد، وهو يؤكد على الحاجة إلى صيغ قانونية ومؤسساتية أخرى من أجل ضمان تفعيل لامركزية إدارية حقيقية.
أما الان كريستناخت فيعرفنا على مسار اللامركزية في فرنسا، البلد الذي عاش ذات مرة تحت حكم شديد المركزية لقرنين من الزمان تقريبا من عام 1789، عام الثورة، ولغاية عام 1981. إن التنظيم المناطقي في سوريا نسخة طبق الأصل عن الشكل الفرنسي. ولقد عملت الحكومة الفرنسية على الذهاب أبعدمن المساواة القانونية التامة بين كل المواطنين نحو مزيد من الكفاءة والتشاركية في السياسة، قائمة على مطالب مجموعات تقوم على أساس الهوية وتطالب بها جماعات معينة، الأمر الذي قاد إلى ثلاث موجات من اللامركزية. فتمت الموافقة على وضع خاص لكورسيكا، وهو ما أدى إلى إنهاءالمطالب الانفصالية للقوميين الكورسيك.
أي نوع من اللامركزية من أجل سوريا؟[1]
بسمة القضماني
لم يعد من الممكن غضّ الطرف عن عملية التنظيم الإداري للأراضي في سوريا؛ بذريعة عدم وجود سلطة تمثّل الشعب وتحظى بشرعية الانتخابات لتضطلع بهذه المهمة. فإلى جانب تطلعات الأكراد للإقرار بحقهم في الحكم الذاتي والاعتراف بخصائصهم القومية؛ لا محيص أمام السوريين من القيام بمراجعة واقعية للنظام المركزي الذي ساد لأكثر من ستين سنة. وكان يخدم آلية حكم غير شفافة وقمعية احتكرت السلطة وموارد البلاد. وثمة عدة أمثلة من مناطق مختلفة عبر العالم، أثبتت أن إعادة الترسيم الإداري لأراضي البلاد يمكن أن يكون عنصراً حاسماً في تسوية النزاعات وجزءاً لا يتجزأ منها، أو في الوقاية من بعض الصراعات في مراحل نشوبها الأولى.
فعلى سبيل المثال، لم تتم تسوية قضية أتشيه في إندونيسيا؛ إلا بعد اعتماد نموذج ترسيم إداري جديد للبلاد. وكذلك نجحت فرنسا في نزع فتيل الاضطرابات الانفصالية في جزيرة كورسيكا من خلال التفاوض على وضع خاص لهذه الجزيرة في إطار خطة لامركزية موسعة للبلد بأكمله.
لذلك؛ يمكن القول إنه من حيث المبدأ، وعلى مستوى الحسابات السياسية أيضاً؛ أصبح من الضروري أن تحدد سوريا من الآن ترسيماً إدارياً جديداً ونهائياً للبلاد. أو على الأقل أن تقرّ المبادئ التي ستحكم هذه العملية لإنجاز إصلاح ناجح. بعد الأخذ بالاعتبار المخاطر التي قد تنطوي عليها اللامركزية، حيث لابد من طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الدولة وحركة المجتمع، أهمها:
– ما هي القدرات الواجب بناؤها على مستوى الدولة المركزية لإنجاح اللامركزية المنشودة؟
– هل من المستحب إقرار وضعية خاصة لبعض المناطق (الأكراد في سوريا، الكورسيكيين في فرنسا) عوضاً عن نموذج لامركزي موسّع يفرض فيه النظام نفسه على الأقاليم كلها؟
– لماذا فشلت تجارب اللامركزية في كلٍّ من العراق واليمن؟
– كيف يمكن التمييز بين ما هو متصل فعلاً ببرنامج اللامركزية، وما ينبغي معالجته في إطار إعادة صياغة العقد الاجتماعي، بغية تحقيق المصالحة والعودة إلى السلم المدني غداة انتهاء النزاع؟
ومن نافلة القول؛ إن ثمة افتقاراً إلى الثقة بين مختلف المجموعات التي تشكل المجتمع السوري، إذ قام نظام حكم عائلة الأسد على التقسيم الطائفي واستغل ذلك التقسيم لإشعال مواجهات عسكرية ذات طابع طائفي. لقد عاشت سوريا أكثر من نصف قرن تحت إمرة حزب البعث الذي روّج للعروبة بصيغة شوفينية، وأنكر دائماً تنوع مكونات المجتمع السوري، قامعاً المطالب المتصلة بالتعبير عن هذا التنوع الاجتماعي.
وقد أدّى تحوّل الانتفاضة الشعبية في عام 2011 إلى نزاع عنيف، إلى تهميش جميع الأصوات المعتدلة من التوجهات كافة، ليسود صوت حاملي السلاح فوق صوت الجميع. الأمر الذي عمّق أزمة الثقة بين جميع الطوائف. ويعتبر الأكراد عموماً (المنتمون منهم إلى المجلس الوطني الكردي، والممثلون في عدد من التحالفات المعارضة) أن باقي مكونات المعارضة قد فشلت في تقديم تطمينات بشأن التعامل بإنصاف مع التطلعات المرتبطة بهوية الأكراد بصفتهم أقلية وطنية. بيد أن أزمة الثقة هذه لا تقتصر على الأكراد؛ فإذا عدنا إلى الوراء ونظرنا في مراحل سابقة من تاريخ البلاد، سنلاحظ أن الكثير من العلويين كانوا يرون أنفسهم ضحايا للنخبة السنية. مشددين على أنه قد تم تغيير أسماء جميع قراهم، وأنه لم يتم قط الاعتراف بهم كطائفة بكل معنى الكلمة. غير أن غالبية هؤلاء العلويين لم يسعوا حقاً إلى أن يتم الإقرار بخصائصهم كطائفة في ظل سيادة الإيديولوجية القومية العربية والولاء القبلي والتفرقة الاجتماعية. إذ غطّت هذه العوامل كلها على الانتماء الطائفي. والواقع أن العلويين ليس لديهم اليوم مجلس طائفي يمثلهم، ولم يكن في السابق أيضاً. إذ حتى عند إنشاء حكومة محلية في اللاذقية في عشرينيات القرن الماضي؛ كان مجلسها مؤلفاً من 9 أعضاء، اثنان منهم فحسب من الطائفة العلوية. ولم يؤدِّ ذلك إلى أية ضغائن أو مطالبات بزيادة تمثيلهم.
وإذا أردنا توخي رؤية ملائمة للامركزية المنشودة في سوريا؛ فحري بنا أن نأخذ الخارطة العرقية والطائفية للبلاد مرجعاً، وأن نبدأ بالاعتراف بالتداخل والتمازج القوي للطوائف فيما بينها في شتى أنحاء البلاد. فلا توجد منطقة واحدة في سوريا، عدا جبل الدروز، تقطنها غالبية من مجموعة عرقية أو طائفية واحدة بعينها. فعلى سبيل المثال يتجاوز عدد سكان وادي النصارى، الواقع قرب مدينة حمص، 120 ألف نسمة يضاف إليهم حوالي 300 ألف من النازحين من جراء الصراع. ويتألف هؤلاء من مجتمعات مسيحية وسنية وعلوية ومرشدية (وهي طائفة منبثقة عن العلوية). أما في مدينة السلمية الواقعة شمال غرب حماة فنجد حوالي 10 آلاف نسمة، غالبيتهم من الإسماعيليين الذين يتعايشون منذ عدة قرون جنباً إلى جنب مع السنة، بينما تحيط بمدينتهم عدة قرى علوية. وكذلك في دمشق، إذ ثمة عدة أحياء على غرار “مثلث البلور” تعتبر من أكثر مواقع العالم ثراء من حيث التنوع الثقافي والديني. حيث نجد أكثر من عشرين كنيسة وثلاثين مسجداً سنياً وموقعين مقدسين للشيعة وسبعة معابد يهودية. هذا التداخل بين المجتمعات المختلفة والترابط الاقتصادي بين أرجاء البلاد؛ متصلان أيضاً بالتسييس التقليدي للمجتمع السوري. فرغم توالي الحكومات القمعية؛ تأثر هذا المجتمع بإيديولوجيات عدة بغض النظر عن السياسات القائمة على مسألة الهوية. كل ذلك قد يدلل على ضرورة تقسيم الأراضي إدارياً على أسس غير طائفية أو عرقية. بيد أن الاحتجاجات الشعبية بعد أن تحولت إلى مواجهات مسلحة أصبحت تحمل صبغة طائفية بسبب القمع الأعمى لها، مما سمم العلاقات بين المجتمعات المحلية المختلفة ولاسيما بين الطائفتين السنية والعلوية.
وعلى الرغم من رفض غالبية السوريين تقسيم الدولة أو تقاسم السلطة وفق أسس طائفية؛ فإن صيغة الحوكمة وتنظيم الأراضي الذي يصبون إليه لا يزال غير واضح. ويعرف كل السوريين أن هذا ضروري لكن المسألة لا تكتسي أولوية قصوى لدى الجميع، أو هم على الأقل لا يعطونها الدرجة ذاتها من الأولوية. وبما أن ثمة فئة واسعة من الشعب تطالب بذلك، فينبغي أن تتم معالجة هذه المسألة على المستوى السياسي قبل أن تتفاقم الأزمة أكثر من ذلك.
والواقع أن الأكراد والعلويين والدروز والأشوريين يطالبون بشكل ضمني حيناً وبشكل صريح حيناً آخر، بتوضيح صيغة الدولة التي سيتم بناؤها بعد نهاية النظام الديكتاتوري، وطبيعة تنظيم الأراضي في سياق ديموقراطي، وتحديد وضع كل منطقة من مناطق البلاد. وهم يعتبرون أن الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون بمثابة إثبات حسن نية الغالبية العربية السنية، والتزامها بالاعتراف بالأقليات وحقوقها.
هنا لابد من الإشارة، إلى أنه ثمة تناسب بين قلق الأكراد والعلويين والمسيحيين والدروز وبين رؤيتهم للأسلمة المتزايدة للمعارضة. وهم يشيرون إلى قائد جبهة النصرة “أبو محمد الجولاني” لتبرير مخاوفهم من مجيء نظام جديد يكرر ممارسات التمييز والاضطهاد. ويطالب الأكرادُ المعارضةَ بتقديم ضمانات تؤكد على علمانية الدولة. ورغم أن الأكراد في غالبيتهم من السنة؛ فإنهم يخشون الرابط القائم بين الإسلام السياسي والقومية العربية ويرفضون الاثنين معاً.
مخاطر الفيدرالية إن لم يُعَدّ لها جيّداً:
ما دام الصراع مستمراً فستحاول المجموعات المسلحة أيّاً كان توجهها أن تدافع عن وجهات نظر متطرفة. فعلى سبيل المثال، أعلنت الحركة الوطنيّة الكرديّة[2] بصفة أحادية خلال ربيع 2016؛ أن سوريا بمثابة فيدرالية. وأن المناطق التي يتركّز فيها الأكراد ستحصل على استقلالها. لم يلقَ هذا الإعلان الدعم الدولي الذي كان يتوقّعه حزب الاتحاد الديموقراطي، إلا أنّ هذا الإعلان ذكّر السوريّين بأهميّة صياغة إجابات مقنعة لأسئلة ينبغي أن تعتمد عليها أسس قيام سوريا الجديدة. ومنذ ذلك الحين، يعلن الأكراد على الملأ تشجيعهم قيام نظام فيدرالي في سوريا، بما فيهم الأكراد المنخرطون في المجلس الوطني الكردي.
إن سؤال السوريين عن الفيدرالية يكشف أن القليل منهم فقط –عرباً كانوا أم أكراداً– مطلعون بالفعل على مختلف عناصر النقاش. وأنهم يتحدثون عن بلدان فيدرالية عديدة دون أن يعرفوا أصل تكونها في هيئة فيدرالية، وكيف تحولت إلى نظام لامركزي. وهكذا يبدو أن الفيدرالية التي يتم الحديث عنها، هي محض شعار جديد أو مفهوم يطرحه الأكراد، بعدما اقترحته عليهم بعض البلدان، دون أن يقوموا بدراسته فعلياً.
ويبدو واضحاً أن البلدان الأجنبية لا تلعب دائماً دوراً إيجابياً، فكثير من المعلقين والمسؤولين السياسيين الغربيين يتحدثون عن جعل سوريا فيدرالية أو كونفدرالية دون أن يكون لديهم أدنى معرفة بتاريخ سوريا وطبيعة تكوينها الاجتماعي. وكأن الأمر هو محض تقسيم للأراضي.
وفي هذا السياق، أجرى أحد المراكز البحثية استطلاع رأي بين السوريين حول مسألة الفيدرالية، نتج عنه أن أكثر من 85% من غير الأكراد يعارضون الفيدرالية، بينما أكثر من 85% من الأكراد يؤيدون الفكرة. وبما أن الاستقصاء لم يكترث بوضع أي تعريف أو شرح للمسألة؛ فقد كان بديهياً أن تزيد الأسئلة والاستقصاء برمته من حدة الاستقطاب القائم في إطار هذا النقاش. كما لو كان الأمر يتعلق بإبداء رأيك بحزب ما دون أن تعرف شيئاً عن برنامجه وأفكاره.
أمام هذه الحال، يغدو من الضروري أن ينطلق نقاش جادّ حول مسألة اللامركزية، ليصبح لها مضمون واضح، من خلال توضيح فكرة تعدد نماذج الفيدرالية بتعدد الفيدراليات في العالم أجمع، ومن خلال التشديد على أن الاستقلال الذي لا يصحبه تعريف جلي للعلاقة بين الدولة المركزية والسلطات المحلية يؤدي إلى فشل الدولة بأكملها، ومن ثمّ إلى فشل المناطق المستقلة أيضاً، كما هي الحال في العراق واليمن.
واليوم تتجلى المفارقة في الدائرة المفرغة التي يدور فيها الصراع، وتنعكس بآثارها السلبية؛ فكلما ضعفت الدولة وضعفت قدرتها على تمثيل الأمة، نشطت القوى الطاردة المركزية وعجزت الدولة عن التعاطي مع مطالب المجموعات المختلفة.
لقد غيرت الثورة سوريا والسوريين على أصعدة شتى، والأمر الذي طوّر النقاش حول التنظيم المستقبلي للأراضي السورية، وزاد من سرعة طرحه هو مطالب الأكراد في المقام الأول، إلى جانب التجارب الجديدة للحوكمة المحلية التي ظهرت بعد انسحاب قطاع الخدمات الإدارية التابعة للدولة، من المناطق التي سيطرت عليها المعارضة.
منذ اندلاع الثورة في 2011 والأكراد يذكّرون بالاضطهاد والتمييز الذي تعرضوا له على يد النظام البعثي لمدة نصف قرن، ويطالبون بالتزامات جادة وغير قابلة للمراجعة من قبل المعارضة. ورغم مطالبة الأكراد في معظمهم بالفيدرالية؛ فإنهم منقسمون بين مُطالِبٍ بوضعية خاصة للأكراد، ومنهم الحزب الديمقراطي الكردي أو حزب الاتحاد الديمقراطي، ومُشجّعٍ لنظام عام من اللامركزية المتشددة التي تصل حدّ الفيدرالية، والتي يمكن تطبيقها على سوريا بالكامل، ويمثل هؤلاء المجلس الوطني الكردي بشكل خاص.
بالإضافة إلى ذلك ومنذ نهاية عام 2011 شرع المجتمع المدني في تنظيم نفسه على المستوى المحلي لتوفير الخدمات الحيوية الأساسية للسكان. وخلال خمس سنوات ظهر حوالي 400 مجلس محلي في المناطق التي أراد النظام معاقبتها بسحب خدمات الدولة منها. وعادة يُنتخب أعضاء هذه المجالس، أو يُختارون من بين الأعيان المحليين الذين يحترمهم السكان. وقد أُنشئت إدارات متخصصة بالتعليم والصحة والمواصلات والبنى التحتية، وكذلك وحدات شرطة محلية ودفاع مدني (القبعات البيضاء) وقضاء محلي. وعلى الرغم من الفوضوية التي تميز عمل بعض هذه المؤسسات؛ فإنها تمثل حوكمة محلية ساعدت طوال خمس سنوات على تطوير ديمقراطية محلية قائمة على المشاركة، يمكن أن تمثل نموذجاً مستقبلياً لدولة ديموقراطية ولامركزية.
إجراءات مُقترحة:
نقترح هنا مقاربة تتعدى مسميات مثل: الفيدرالية والكونفدرالية واللامركزية الإدارية والسياسية، انطلاقاً من متطلبات فعلية لمختلف الفئات المكونة للمجتمع السوري –الدينية منها والسياسية– وذلك لتحديد المبادئ المؤسّسة للامركزية المطلوبة لسوريا، ومضمونها الوظيفي، دون الحكم المسبق على الشكل النهائي لتنظيم البلد. ومع البدء في تحديد الصلاحيات التي ينبغي أن تتمتع بها السلطات المحلية في المجال الضريبي والاقتصادي والاجتماعي والأمني؛ ستسهل تسمية هذا النموذج التنظيمي وسيبدو أقل بلبلة.
يتساءل عبد الحكيم بشار وهو الواجهة القيادية للحركة الديمقراطية الكردية السورية عن الطريقة التي يمكن أن تحافظ على هويته الكردية وعلى دمشق عاصمة لبلده في آن واحد.
إن الحل الأكثر منطقية ينطلق من ارتباط السوريين كافة بوحدة البلد وسلامة أراضيه واعترافهم بضرورة اللامركزية. وينبغي التأكد من أن هذه المفاضلة ستظل مترسخة في المبادئ الديمقراطية الأساسية، كالمساواة والحرية وحماية حقوق الجميع. ولكن ينبغي كذلك تحديد مختلف خطوات اللامركزية كما تطبق اليوم في العديد من الدول على الصعيدين الاقتصادي والإداري.
يُعتبر هذا المعيار أساسياً، ولا علاقة له بالتاريخ أو بالمطالب المرتبطة بالهوية، بل هو معيار له علاقة وطيدة بالفاعلية وشفافية الحوكمة. وهكذا فإن مقاربة عملية وفعالة للامركزية يمكن أن تُزوّد السوريين بأدوات فكرية من شأنها أن تحدّ من بعض مصادر القلق الأساسية وتفتح آفاقاً لتسوية تفاوضية، لمشكلات كانت تبدو غير قابلة للحل، لأنها كانت تُطرَح في هيئة مطالب متعلقة بالهويات، يُعبّر عنها على خلفية من الكراهية المتراكمة والمخاوف المستقبلية.
إنّ سؤال الأمن الوطني يُعدّ من الأسئلة الأساسية التي ستطرح منذ البداية، فإن حافظ السوريون على وحدة الأراضي ووحدة المجتمع؛ فمن الضروري أن ينخرطوا في أسرع وقت في نقاش جامع للوصول إلى تصوّر مشترك للأمن الوطني، وللأولويات الإستراتيجية المنبثقة عنه. إذ لا يمكن أن تنجح عملية إعادة هيكلة الجيش والجهاز الأمني دون توافق، تقع مسؤوليته على عاتق المجتمع نفسه.
على السوريين أن يعيدوا النظر ومنذ الآن في كيفية العيش معاً، أو في معنى العقد الاجتماعي الوطني الجديد، بعيداً عن الدولة التي تسيطر عليها سلطة فاسدة. وذلك في انتظار أن تدرج تلك العملية في إطار مؤسسات جديدة بعد أن تُستعاد سلطة الدولة. والمثال الذي ينبغي ذكره هنا هو العراق، حيث لم تتسنَ للعراقيين الفرصة بعد إطاحة الولايات المتحدة بصدام حسين؛ لمناقشة رؤية توافقية ترضي جميع الطوائف حول الأمن الوطني في العراق. ولا يزال العراقيون يدفعون ثمن ذلك حتى اليوم.
تتعدى الإشكالية هنا المسألة الكردية، لتشمل السوريين ككل. إذ على السوريين أن ينفتحوا سريعاً على التجارب التي عاشتها معظم الدول الحديثة بما يتعلق بتوكيل السلطات ونقل الصلاحيات من المركز إلى المناطق المختلفة التابعة له. وكذلك بما يتعلق بتمثيل الشعب ومشاركة المواطنين من خلال الحوكمة المحلية.
تُعتبر اللامركزية في الغرب مرادفاً للحكم الرشيد. ويعزو أليكسي دو توكفيل نجاح الديمقراطية في الولايات المتحدة وبريطانيا إلى وجود حكم محلي ذي صلاحيات كبرى. وبالتالي فإن إرساء الديمقراطية في البلد وتحديثه يحتاجان إلى لامركزية مطبقة على نطاق واسع، وجرعة كبيرة من البراغماتية لتصميم نموذج لإدارة الأراضي والمجتمع بشكل يتناسب مع تاريخ البلد. بدلاً من النماذج التي يقدمها الخبراء الأجانب، الذين يقدمون أنفسهم على أنهم مصممي الدولة السورية الجديدة!
وأخيراً، ينبغي أن لا يُحَمَّل ملف اللامركزية أكثر مما يحتمل بالفعل، فاللامركزية لا يمكن أن تحلّ إشكاليات عميقة تتطلب إيجاد حلٍّ تاريخي، وبناء عقد اجتماعي جديد بين السوريين. وهي إشكاليات ذات طبيعة سياسية متأصلة. تلك مسائل ينبغي إدراجها في دستور ديمقراطي للبلد، إلا أن صيغة اللامركزية يمكن التفاوض حولها لتأتي بدءاً من الآن بإجابات عملية من شأنها تفادي العراقيل والخروج من الأزمات المحتملة. إنّ اللامركزية هي قلب صيغة الحوكمة لسوريا الجديدة.
البحث عن صيغة بعيدة عن الشعارات:
لن تنجح اللامركزية إلا إذا خاضت فيها دولة فعالة على المستوى المركزي. إذ ترتبط هذه العملية بوجود مؤسسات وطنية ذات أداء جيد، وهي تقوم على إنشاء هيئات توكل إليها الصلاحيات اللازمة لضمان الامتثال لالتزامات اللامركزية. كما تحتاج اللامركزية التي قد تؤدي إلى إنشاء نظام فيدرالي؛ إلى إعادة بناء دولة مركزية قوية لضمان الوحدة الوطنية وحقوق المواطنين جميعهم. وقد شدد عدد من المختصين على الحاجة إلى هذه الدولة المركزية بصفتها شرطاً هاماً لنجاح إعادة الإعمار، كما أنها ضرورية حتى لا تؤدي الفيدرالية إلى تقسيم يشكل أمراً واقعاً يتحول في نهاية المطاف إلى تقسيم يكرّسه القانون.
ويمكن الإشارة إلى ثلاثة مستويات مختلفة لتفويض السلطات من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية مما سيساعد على رسم الحد الفاصل بين اللامركزية والفيدرالية:
المستوى الأول: يتعلق بنقل الصلاحيات ذات الطابع الإداري البحت لتنفيذ السياسات التي تم إقرارها على مستوى السلطة المركزية.
المستوى الثاني: يمنح السلطات المحلية إمكانية تقرير السياسات المحلية بنفسها، بما في ذلك تحديد نسب الضرائب المحلية.
المستوى الثالث: يتم بلوغه عندما يتسنى للجماعات المحلية سنّ لوائح أو تشريعات، مع إجراء مشاورات مع الدولة المركزية أو مع مستويات عليا في الهرم الإداري، تخضع السلطة المحلية للمساءلة أمامها.
وفي إطار مقاربة تكنوقراطية لتجربة فرنسا في تحقيق اللامركزية على مدار العقود الأربعة المنصرمة؛ يرى مستشار الدولة آلان كريستناخت، أن الدولة الفرنسية التي كانت من أكثر الدولة مركزية عبر التاريخ، نفّذت عدة برامج لتحقيق اللامركزية. طبقتها على شتى أنحاء البلاد في كل من عام 1982 و2010 و2014. وهو يوضح أن الدولة قد نجحت في التفاوض مع جزيرة كورسيكا على منحها وضعية خاصة استجابة للمطالب القومية لهذه الجزيرة. كما يوضّح كيف تم التفاوض على منح الحكم الذاتي لكاليدونيا الجديدة، وقد قطعت فرنسا عهداً بإجراء استفتاء لتقرير المصير هناك بعد 10 سنوات، للتوصل إلى وضع نهائي للجزيرة الواقعة فيما وراء البحار، على بعد أكثر من 8000 كم من فرنسا القارية. وهي جزء من الأراضي التي كانت فرنسا قد احتلتها في العهد الاستعماري.
وفي إطار مراجعة الخارطة الإدارية للبلاد يبدو أن ثمة توافقاً بين غالبية السوريين على ترسيم يقوم على مناطق جغرافية وليس على أسس عرقية أو دينية. بغية الوصول إلى حوكمة محلية ديموقراطية وفاعلة تمثل مواطني هذه المناطق كافة. إن هذه هي الوسيلة التي ستساعد على تفادي تكرار ممارسات سلطوية وتمييزية، على يد إحدى الأقليات العرقية أو الطائفية، التي تشكل غالبية السكان في إحدى المناطق بحق باقي المجموعات القاطنة فيها. وهذا ما يشغل السكان من غير الأكراد في شمال شرق البلاد حيث تعيش غالبية كردية.
ومن نافلة القول؛ إن الصلاحيات الاقتصادية والمالية الموكلة إلى المناطق، والمزايا الاجتماعية التي توفرها الدولة للمواطنين ستكون في صلب المفاوضات حول اللامركزية المنشودة. وإذا كان من الضروري الاستجابة للتطلعات المرتبطة بالهوية؛ فإن الاعتبارات العملية والحسابات العقلانية للمصالح ستكون على القدر نفسه من الأهمية، بل ستزداد أهمية مع مرور الوقت، مما سيؤثر في خيارات المواطنين السوريين من شتى الانتماءات.
ثمة عدة أمور من شأنها أن تغير من فكر المواطن القائم على منطق الولاء الطائفي، ومنها نظام جباية الضرائب، وكيفية تنظيمها بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية. وأساليب صرف الحكومة المركزية مداخيل الحماية الاجتماعية للموظفين، من خلال السلطات المحلية التي ستتحصل كذلك على المداخيل المتأتية من الموارد الطبيعية والسياحة والتراث الثقافي. وتأتي اسكتلندا مثالاً حياً على الدوافع التي توجّه المواطنين عندما يجدون أنفسهم أمام خيارات ملموسة تؤثر في مصالحهم. فقد تأثّرت نتائج الاستفتاء على استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة باعتبارات متصلة بالضرائب والضمان الاجتماعي، وليس باعتبارات الهوية والتاريخ.
ولا يمكن تنفيذ جميع التدابير سالفة الذكر إلاّ من خلال آليات أمنية قادرة على طمأنة المجتمعات المحلية كافة، ويتم إرساؤها فور بدء المرحلة الانتقالية. وإن عملية إعادة تنظيم المؤسسات الأمنية على المستوى الوطني ينبغي أن تتم من منظور لامركزية موسعة. ولذلك ينبغي تأسيس قوات شرطة محلية تخضع للسلطات المحلية، ويتم تحديد ولاياتها بدقة شديدة. ومن الضروري أن تبقى صلاحيات هذه الشرطة المحلية محدودة، وأن تُعتبر تكميلية للشرطة الوطنية. ويكمن التحدي الأساسي في تفادي نزعة بعض المجتمعات المحلية لتشكيل ميليشيات عرقية وطائفية في كنف الشرطة المحلية، تضم قوات كردية أو علوية أو سنية أو درزية. ويأتي العراق مثالاً حياً يدفع بنا إلى التحذير من هذه النزعة. وكذلك الهند، حيث نجحت القوات المسلحة في الدمج السلس بين مختلف المجتمعات والطوائف، في حين تتبع الشرطة المحلية خارطة عرقية ودينية في مختلف الولايات، مما يسهم في تفاقم التجزئة والطائفية. وقد يتم التفكير في إبرام اتفاقات مؤقتة لضمان إرساء الاستقرار، وعودة الثقة. في حين قد يفضل البعض تلافي الخوض في أوضاع مؤقتة قد تكون لها عواقب وخيمة في المستقبل. ولعل البتّ في هذا الخيار يتجاوز حدّ هذه الدراسة الموجزة، ولكن لابدّ من البحث في هذا الأمر في إطار خطة أمنية شاملة ستحدد آليات إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وهو أمر يجب الاضطلاع به في أسرع وقت ممكن.
وإذا أمكن التوصل إلى توافق في الآراء حول هذه المبادئ الرئيسية؛ فسوف يشكل ذلك إحدى أهم ركائز العقد الوطني الجديد. ولكن أياً كان مضمون هذا الاتفاق الأوليّ فينبغي أن يقوم على التزامات مكتوبة. ذلك أن الأكراد يتطلعون إلى ضمانات دستورية، وإلى سلطة قضائية مستقلة وفعالة يمكن الاحتكام إليها لضمان احترام الدستور والاتفاقات المبرمة.
ولذلك من الضروري تكثيف الجهود في هذا الاتجاه؛ أي بناء المؤسسات المركزية الأخرى لإنجاح عملية تفويض السلطات. وتبقى التحديات عديدة بين إرساء دولة القانون، والمساواة بين المواطنين، والفصل بين السلطات، وتحقيق التوازن بينها لتفادي تغوّل الأغلبية ضدّ الأقليات. وتشغل هذه التحديات المواطنين السوريين جميعهم، بغض النظر عن انتماءاتهم.
يطالب الأكراد على سبيل المثال بأن تكون الدولة السورية الجديدة دولة علمانية، وأن ينص الدستور على هذه العلمانية. فهم يرون في ذلك ضماناً لتحقيق المساواة بين مكونات المجتمع الطائفية والعرقية، وكذلك بين الرجل والمرأة.
ومن بين المؤسسات الوطنية الجديدة التي ينبغي إنشاؤها؛ يبدو أساسياً أن يتم تكوين مجلس أعلى، يُعدّ بمثابة مجلس شيوخ[3]، تكون وظيفته تمثيل الجماعات كلها، أيا كان عددها. بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء هيئة من شأنها مكافحة التمييز، وتتمتع بصلاحيات فعلية ويمكن للمواطنين أن يلجؤوا إليها مباشرة؛ سيضمن احترام النصوص الدستورية. ويتضمن برنامج الكتلة المعارضة الذي تمت صياغته في خريف 2016 إنشاء هيئة قانونية عليا من شأنها البت النهائي في القضايا المتعلقة بحقوق الأفراد.
إن الرغبة في فرض نظام فيدرالي صِيغَ على وجه السرعة، أو فرض نظام بُني على تقسيم السلطة بين مختلف الطوائف على غرار اتفاق الطائف في لبنان؛ قد تؤدي إلى امتداد حالة عدم الاستقرار على المدى البعيد. وتعتبر البوسنة مثالاً لذلك. إذ إن تقاسم السلطة كان قد صُمِّمَ لتفادي هيمنة جنسية ما على حساب جنسيات أخرى؛ وقد سيطر على مَن صاغوا اتفاقية دايتون همّ تحقيق معادلة التوازن الطائفي، ونتيجة لذلك قامت منظومة من القوى والقوى المضادة، شلّت النظام وجعلت إدارة البلد مستحيلة، كما احتوت ضمنياً على تقسيم قائم بالفعل بين مختلف الطوائف.
إن كانت الحالة في البوسنة قد تم التعامل معها بإحكام، فذلك مرده إلى أنها تندرج في إطار أوروبي مستقر، وذلك لن يكون متاحاً في الحالة السورية. وهنا تفتح من جديد التجربة العراقية مجالاً للتفكير، فاستقلال كردستان العراق على مستوى واسع جداً يجعل منه كياناً يحكم نفسه بشكل شبه ذاتي، ولكن الأهم من ذلك أن السلطة المركزية والحكومة الإقليمية في كردستان لم تتفاوضا أبداً حول كنه علاقاتهما ببعضهما البعض، كما أنهما لم تتفقا على تعريف مشترك للمصالح الوطنية والمخاطر التي يمكن التعرض لها، وكذلك العلاقات التي ينبغي أن تعقد مع البلدان الأخرى في المنطقة. حتى أنهما لم تفكرا في إنشاء شرطة حدودية مسؤولة عن ضمان أمن الحدود الوطنية للبلاد. وكلنا على دراية جيدة بوضع الجيش العراقي الذي يعرف بالوطني اسمياً فقط.
إن حذر الأكراد واضطرابهم لا يعادله سوى الحساسية المفرطة لأغلبية السوريين تجاه كل ما يشبه التنظيم السياسي للبلد على أساس طائفي، بل إنهم يشعرون بالخوف من تقسيم فعلي للبلد لا يُفصَح عنه على الملأ.
لذلك يبدو من الأفضل في سياق بلد بهذا الضعف؛ أن يتم اتباع عدد من الإجراءات التي من شأنها طمأنة هذه المخاوف، ومنها تفادي الإعلان المبكر عن نظام فيدرالي، وتركيز الجهود على بناء نظام لامركزي يتم من خلاله تحديد الصلاحيات، وأشكال التمثيل والمشاركة في الحياة المحلية على مستوى المحافظات، وتعريف الهيئات المسؤولة عن تمثيل المواطنين وحمايتهم، وعدم التمييز بينهم على المستوى الوطني.
إن هذا يعني بالنسبة للسوريين أن يتفقوا في أسرع وقت ممكن على المبادئ الأساسية والمضمون الوظيفي لنظام لامركزي مناسب لسوريا، ثم أن يقوموا بتعريف مختلف المراحل التي من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى شكل إداري للأراضي من شأنه أن يفتح المجال لتطور ممكن نحو الفيدرالية في نهاية المطاف.
[1]– اجتمع فريق من السوريين ذوي الخلفيات المهنية المختلفة والانتماءات الجغرافية والطائفية المتنوعة في نيسان/إبريل 2016 في باريس لمناقشة نموذج اللامركزية الملائم لسوريا.
[2]– هي حزب الاتحاد الديموقراطيّ المعروف بقربه الإيديولوجي وبعلاقاته مع حزب العمّال الكردستاني الذي يترأسه عبد الله أوجلان في تركيا.
[3]– انظر ورقة عصام الخفاجي، برلمان ذو مجلسين في العراق وسوريا، مبادرة الإصلاح العربي:
http://www.arab-reform.net/ar/node/961
اللامركزية الإدارية ودواعي تطبيقها في سوريا الجديدة
رياض علي
مقدمة:
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن شكل الدولة المستقبلي في سوريا الجديدة بعد رحيل نظام الأسد. هل ستبقى سوريا دولة بسيطة موحدة؟ أم ستتحول إلى دولة فيدرالية اتحادية؟ وإن كان الأمر كذلك؛ فهل ستكون الفيدرالية على الأساس القومي أم الطائفي أم المناطقي؟ تلك الأسئلة وغيرها باتت تراود المواطن السوري، وتنقسم الآراء حول الحلول المطروحة لها، بين مؤيد لهذه الفكرة ومعارض لتلك.
وعلاوة على ذلك نشأ خلط وعدم تمييز بين المفاهيم المذكورة، حيث ذهب بعضهم إلى رفض الفيدرالية والقبول باللامركزية السياسية، أو العكس، مع أن المصطلحين يطلقان على مفهوم واحد وهو الدولة الاتحادية أو الفيدرالية. ناهيك عن استخدام مصطلح اللامركزية الإدارية بالتزامن مع اللامركزية السياسية، وهذا في غير محله. لأن اللامركزية السياسية (الفيدرالية) هي شكل من أشكال الدول المركبة، وتبحث الفيدرالية في دستور الدولة. أما اللامركزية الإدارية فهي شكل من أشكال إدارة مؤسسات الدولة الخدمية وترد عادة في القانون الإداري.
ونظراً لوجود شرخ كبير في رؤية مكونات الشعب السوري للحل، وتوزعهم بين رافض للفيدرالية (اللامركزية السياسية) وبين قابل بها؛ أعتقد أن الصراع الحاد بين القوى السياسية خلال المرحلة الانتقالية وما سيليها حول شكل الدولة قد يجعل من إمكانات الدولة ومؤسساتها أدوات لهذا الصراع الذي قد يدمّر ما تبقى من البلاد.
إن دستور الدولة السورية القادم، هو عقد اجتماعي بين السوريين، لا يمكن أن يعبر إلا عن إرادة السوريين، وهو من سيحدد شكل سوريا القادم بدولة بسيطة كما كانت، أو مركّبة اتحادية. ولذلك نرى أن نترك مسألة البحث في شكل الدولة إلى ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية؛ لأن الدساتير لا يمكن أن تسنّ إلا في مرحلة الاستقرار، بعيداً عن القلاقل.
في هذه الورقة، سنحاول بحث مسألة اللامركزية الإدارية وبيان مزايا هذا النظام الإداري وعيوبه، ومن ثم سنتطرق إلى دواعي تطبيقها في سوريا الجديدة. خاصة وأن اللامركزية الإدارية مرتبطة بموضوعات متعلقة بالنظام الإداري للدولة وليس لها علاقة بنظامها السياسي، ولذلك فإن دراستها تندرج تحت موضوعات القانون الإداري.
المبحث الأول: مفهوم اللامركزية الإدارية:
أولاً: تعريف اللامركزية الإدارية:
تُعرّف اللامركزية الإدارية بأنها توزيع السلطات الإدارية بين الحكومة والهيئات المحلية أو الإقليمية التي تقوم بممارسة صلاحياتها تحت إشراف السلطة المركزية ورقابتها. أي أن الوظيفة الإدارية هي وحدها التي تكون موزعة بين الحكومة والسلطات الإدارية الإقليمية، مع ما يستتبع ذلك من نتائج قانونية. ولا سيما وجود ذمة مالية مستقلة عن الذمة العامة للدولة، وخضوع موظفي الهيئات المحلية لأنظمة خاصة غير نظام الموظفين الحكوميين في الإدارة المركزية؛ إلا إذا نص النظام الخاص على تطبيق النظام العام أو إذا نص القانون على ذلك.
بهذا الشكل تكون اللامركزية الإدارية على نقيض المركزية. تعطي للأقاليم أو الولايات صلاحية البت في الكثير من الشؤون الإدارية، وتمنحها الحق بإقامة أجهزة محلية لتأمين المصالح الإقليمية. أي أنها تسلّم بوجود مصالح محلية قد تختلف عن المصالح المركزية، كما أنها تعطي للسلطات المحلية الشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي، تحت مراقبة السلطة المركزية وإشرافها. فالاستقلال هنا ليس تاماً، مما يحول دون قيام دول متعددة ضمن الدولة الواحدة.
ثانياً: صور اللامركزية الإدارية:
تأخذ اللامركزية الإدارية صورتين:
أ-اللامركزية المحلية أو الإقليمية: تتجلى بصورة مجالس محلية على مستوى المحافظات والنواحي والبلديات، بحيث تكون هذه المجالس رديفة لأجهزة السلطة المركزية الموجودة داخل المحافظات ولا تكون بديلاً عنها.
ب-اللامركزية المرفقية أو المصلحية: يُقصد بها الهيئات والمؤسسات العامة التي تمنح الشخصية الاعتبارية. وتكون مستقلة مالياً وإدارياً، كالمؤسسة العامة للكهرباء، ومؤسسة الاتصالات، …الخ. وهذا الشكل من اللامركزية اقتضته طبيعة التخصص، ورغبة الحكومة المركزية في إطلاق يد الإدارة في مرافق مهمة وحيوية، أو ذات طبيعة خاصة تتحرر إلى حدّ كبير من النظم والأساليب المركزية ومعوقات الروتين الحكومي.
ثالثا: عيوب اللامركزية الإدارية ومزاياها:
أ-عيوب اللامركزية الإدارية: يرى بعض فقهاء القانون الإداري أن اللامركزية الإدارية تشوبها بعض العيوب، التي يمكن تلخيصها بما يأتي:
- إنها تمثل خطراً وتحدياً للوحدة الإدارية داخل الدولة الواحدة، لأن مجالس المحافظات المنتخبة في المحافظات ستتولى إدارة مصالح المحافظة ومرافقها على نحو يختلف عن أسلوب الإدارة المتبع في المركز وباقي المحافظات أو الولايات. ويُرد على هذا الرأي بالقول: إن ذلك هو عامل قوة للامركزية الإدارية وليس عيباً فيها؛ لأن احتياجات كل ولاية أو إقليم قد تختلف عن احتياجات الولايات الأخرى ومصالحها، الأمر الذي قد يقتضي أسلوب إدارة يختلف عن أسلوب الإدارة المتبع في المركز.
- تُعد المجالس المنتخبة في المحافظات أو الأقاليم أقل خبرة، وتفتقد إلى المهارات والمؤهلات الفنية التي يتمتع بها موظفو الإدارة المركزية. إن هذا القول غير دقيق لأنه من الممكن أن تتوافر خبرات ومؤهلات لدى موظفي المجالس المحلية قد لا تتوافر لدى موظفي الإدارة المركزية. وإذا افترضنا صحة هذا الكلام فإن الإدارة المركزية تملك حق الرقابة والإشراف على عمل المجالس المحلية، وبالتالي يمكنها نقض قرارات المجالس المحلية إن كانت غير صائبة.
- ذهب بعض من يقفون إلى جانب الإدارة المركزية إلى القول: إن المرافق اللامركزية الإدارية أكثر تبذيراً من المركزية، وأكثر ميلاً إلى زيادة عدد المرافق العمومية. والحقيقة أن هذا الرأي في غير محله؛ لأن مسالة التبذير وتعدد المرافق المحلية يمكن أن تكون موجودة أيضاً ضمن الإدارة المركزية نفسها.
- تؤدي اللامركزية إلى تشتيت السلطة وبعثرتها، إلى درجة تفقد معها الدولة هيبتها. ويُرد على هذا الكلام بالقول: إن الدول التي طبقت الفيدرالية (اللامركزية السياسية)، والتي تتمتع فيها المقاطعات بسلطات أوسع بكثير من سلطات المجالس المحلية؛ لا تعاني من تشتيت السلطة وبعثرتها، فمن باب أولى أن لا تشكّل اللامركزية الإدارية تهديداً لوحدة الدولة أو تشتيتاً للسلطة.
ب-مزايا اللامركزية الإدارية: يمكن تلخيص مزاياها بما يأتي:
- تؤكد المبادئ الديمقراطية في الإدارة؛ لأنها تهدف إلى إشراك الشعب في اتخاذ القرارات وإدارة المرافق العامة المحلية.
- تخفف العبء عن الإدارة المركزية؛ فتوزيع الوظيفة الإدارية بين الإدارة المركزية والهيئات المحلية أو المرفقية يتيح للإدارة المركزية التفرّغ لأداء المهام الأكثر أهمية، كرسم السياسة العامة وإدارة المرافق القومية.
- تساعد في تحديد حاجات الولاية أو المحافظة بشكل أدقّ؛ لأن أعضاء مجلس المحافظة الذين يتولون الإدارة هم من أهالي الولاية نفسها، ويملكون معلومات تفصيلية عن حاجات المحافظة ومصالحها. ومن المعلوم أن تقييم الاحتياجات بشكل دقيق سيؤدي حكماً إلى حسن الأداء الإداري.
- سيكون لدى أعضاء مجلس المحافظة ولاء لمحافظتهم، بقدر أكبر من الأشخاص الذين لا ينتمون إلى المحافظة.
- تستجيب اللامركزية الإدارية لواقع التفاصيل الإدارية المتشعبة، كما تزيد من سرعة الأداء، وخاصة في مواجهة الأزمات الطارئة، وأوقات الحروب، لأن حصول خلل في المركز أو العاصمة في حالة المركزية الإدارية سيؤدي إلى الشلل في المحافظات كلها، أما في حال اللامركزية الإدارية فالأمر مختلف تماماً.
- تحقق العدالة في توزيع حصيلة الضرائب وتوفير الخدمات في كافة أرجاء الدولة، على عكس المركزية الإدارية، حيث تحظى العاصمة والمدن الكبرى بعناية أكبر على حساب المدن والأقاليم الأخرى.
- يسعى أعضاء مجلس المحافظة إلى أداء المهام الموكلة إليهم بالشكل الأمثل، بسبب الخوف من الفشل العلني أمام أبناء محافظتهم. ولأن نجاحهم سيكسبهم الرضا والقبول من أبناء المحافظة، وهذا سيساعدهم في حشد التأييد مستقبلاً.
المبحث الثاني: اللامركزية الإدارية في سوريا
أولاً: دواعي تطبيق اللامركزية الإدارية في سوريا:
ستكون سوريا الجديدة خارجة من حرب مدمرة، وبما أن المركزية الإدارية لم تكن ناجحة فيها في وقت الاستقرار والسلم؛ فمن باب أولى أنها لن تنجح في المرحلة الانتقالية وما بعدها.
يمكن تلخيص الأسباب الداعية إلى تطبيق اللامركزية في سوريا بما يأتي:
- الإفلات من قبضة المركز الحديدية (حكومة المركز المطلقة). وتحصين السلطة من انفراد جهة معينة أو شخص محدد، وتوزيعها بين أكثر من طرف، ومنح صلاحيات أوسع لإدارات السلطة المحلية ضماناً منها لعدم عودة الاستبداد والتصرف الأحادي بالسلطة.
- الإقصاء والتهميش والحرمان الواسع الذي عانت منه مناطق عدّة إبان حكم آل الأسد. فعلى الرغم من احتواء هذه المناطق على الكثير من الثروات؛ إلا أنها لم تنتفع بها، بل اسُتخدمت بأساليب خاطئة وبشكل سلبي في سير الحكم وتشديد قبضته على حساب الخدمات والمنافع الاجتماعية. الأمر الذي ولّد ردة فعل لدى أبناء تلك المناطق، لذلك من الضروري إشراكهم في الاستفادة من تلك الثروات المحلية والتعويض عن الفترات السابقة.
- إن تطبيق الإدارة اللامركزية بفاعلية في مجال التخطيط والتنمية المحلية، يعمل على تطويع برامج التنمية بسهولة إزاء حاجات السكان المحليين ومتطلباتهم. نظراً لأنها تسمح بمشاركة سكان الوحدات الإدارية المختلفة في عملية إعداد الخطط التنموية لمناطقهم وتنفيذها. كما أنها توفّر دعماً ضرورياً لحشد الطاقات وتعبئة الموارد، وهذا يهيئ فرص النجاح لخطط التنمية الوطنية في تحقيق أهدافها بشكل متوازن يضمن توفير حياة ملائمة لجميع السكان في جميع المناطق داخل الدولة، ويسهم هذا النجاح في تحقيق التوازن الإقليمي، وتقليل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية. ويعتمد هذا بالدرجة الأولى على توزيع سلطة صنع القرار بين هيئات التنمية والتخطيط المركزية ونظيرتها المحلية، على اعتبار أن توزيع الاستثمارات والموارد ورصدها في مجتمع ما له علاقة وثيقة بتوزيع سلطة صنع القرار فيه.
- مواجهة التوسّع والتشعب الإداري الكبير الناتج عن الانفتاح على العالم عقب التغيير السياسي. وهو أمر يصعب على حكومة المركز مواجهته بمفردها. ناهيك عن التوجه العام الذي بدأ يسود مناطق كثيرة في البلاد، مطالباً بضرورة الاشتراك في إدارة الأمور. وتغيير صيغ التفكير من الارتباط المطلق بالمركز إلى إنشاء قيادات مساعدة. وسريان مفاهيم جديدة في المجتمع السوري من حيث التعامل القيادي، ولاسيما بعد أن يعود قسم من المهجرين المطلعين على أساليب الحكم في الدول التي كانوا يقطنونها، ومحاولتهم الاستفادة من تجاربهم.
- لن تكون الحكومة المركزية بمفردها قادرة على إنجاح كل شيء، فهي مطالبة في المقام الأول بإنجاز بناء سياسي وإداري جديد، بالإضافة إلى حل مشاكل الديون الخارجية التي ستثقل كاهل الشعب السوري المنهك من الحرب. ولذلك فإن عملية إدارة الإعمار الشاملة يمكن أن توكل إلى أبناء المحافظات، فهم الأكثر قدرة على استشراف مستقبل المحافظة بحكم الخبرة ومعرفة طبيعة المحافظة جغرافياً واجتماعياً وديموغرافياً، الأمر الذي سيسمح بتسريع عملية تطوير المحافظات وإعادة إعمارها، ورفع مستوى العمل فيها إلى أعلى طاقة ممكنة.
- ستكون اللامركزية الإدارية حامية للدولة السورية من التقسيم والتفتت. وستكون مرضية أيضاً للأطراف المعارضة لتطبيق الفيدرالية، ومرضية كذلك للمطالبين بتطبيقها. وستساعد في تأجيل البت في تطبيق النظام الفدرالي في المحافظات إلى وقت آخر.
ثانياً: كيفية تطبيق اللامركزية الإدارية في سوريا:
يتم عادة توزيع مجالات الوظيفة الإدارية بين الإدارة المركزية والإدارة اللامركزية وفق أسلوبين أساسيين هما:
الأسلوب الأول: هو الأسلوب الإنجليزي، ومؤداه أن يبين المشرّع (القانون) السلطات والاختصاصات التي تعود إلى أجهزة الإدارة اللامركزية على سبيل الحصر، وكل ما عداها هو من اختصاصات الإدارة المركزية باعتبارها من المصالح الوطنية.
الأسلوب الثاني: هو الأسلوب الفرنسي، مقتضى هذا الأسلوب أن يعمد المشرّع إلى ذكر الميادين التي تتدخل فيها الإدارة المركزية، على أن تُترك مجالات عمل الوحدات اللامركزية ونشاطاتها واسعة وغير محددة.
ويمكن أن تلجأ الدولة السورية مستقبلاً إلى المزج بين الأسلوبين، حيث يتم تحديد سلطات الإدارة المركزية واختصاصاتها، وكذلك تحديد مجالات عمل الوحدات اللامركزية. وفي حال ظهور مسائل طارئة وحصول تنازع في الاختصاص (سلبي أو إيجابي) بين الإدارة المركزية والوحدات اللامركزية؛ تقوم الحكومة المركزية بتحديد الجهة صاحبة الاختصاص، عبر إصدار قانون جديد أو تعديل القوانين المعمول بها. فالمركزية الإدارية واللامركزية الإدارية تندرجان تحت قواعد القانون الإداري، وهو قانون داخلي، لا يخضع تعديل بعض مواده أو كلها إلى التعقيدات المتبعة في تعديل الدستور.
يجب أن لا يفتح تعديل القانون الإداري الباب على مصراعيه، مقيداً بذلك حقوق الوحدات الإدارية، ويجب أن يكون حقّ التظلّم أمام المحكمة الدستورية العليا حقّاً مكفولاً للجميع، وأن تكون قراراتها مُلزمة للجميع أيضاً. وذلك بعد تعديل قانون السلطة القضائية بحيث يتم كف يد السلطة التنفيذية عن التدخل في السلطة القضائية، وعدم منح رئيس الدولة صلاحية تسمية أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهذا موضوع متشعب وله شجون لا مجال لبحثه في هذه الورقة.
يجب أن تمنح الوحدات المحلية الشخصية الاعتبارية، إذ من الأفضل أن تُسند إدارة الوحدات الإدارية إلى سكان هذه الوحدات أنفسهم. كونهم أدرى من غيرهم بواجباتهم وأقدر على إدارة هذه المرافق وحلّ مشكلاتها. كما أن هذا الأسلوب يمنح الإدارة المركزية فرصة التفرغ لإدارة المرافق القومية. ويتم تحديد اختصاصات الهيئات المحلية بقانون، ولا يتم الانتقاص منها إلا بقانون آخر. وهي تشمل مرافق متنوعة وتتضمن كافة الخدمات التي تقدم للحيز الجغرافي للوحدة المحلية كمرافق الصحة والتعليم والكهرباء والمياه وغيرها.
ويجب أن يتم اختيار السلطات المحلية (مجلس المحافظة ومجالس المدن والبلدات) من قبل السكان المحليين وليس عن طريق الحكومة أو الإدارة المركزية، وذلك من خلال الانتخابات تأكيداً على مبدأ الديمقراطية. وليس ثمة ما يمنع من مشاركة أعضاء معينين ضمن هذه المجالس لتوفير عناصر ذات خبرة وكفاءة، وتكون لهم الصفة الاستشارية دون أن يكون لهم الحق بالتصويت.
كما أن المحافظ في كل محافظة يجب أن يكون من أبناء المحافظة نفسها، وأن يأتي عبر الانتخاب من قبل أبناء تلك المحافظة، لا أن يتم تعيينه بمرسوم من قبل رئيس الجمهورية كما هو الواقع الحالي في سوريا؛ لأن تعيين المحافظ من قبل السلطة المركزية دون أن يكون لأهالي المحافظة أي دور في تعيينه؛ يُفقد اللامركزية محتواها وقيمتها. وسيأتي البحث على ذكر ذلك في الأسطر القادمة.
كما ينبغي أن يكون في وسع الوحدات المحلية جمع الدخل اللازم لتمويل تكاليف الخدمات المقترحة من المستفيدين من هذه الخدمات. والصلة بين المستفيدين ودافعي الضرائب هي صلة مهمة، غير أن الخدمات العامة يجب أن تقررها جماعة المستفيدين الذين يتعين عليهم تسديد تكاليفها أيضاً. إن مسلك الضرائب المثالي يقوم على “فرض الضريبة وفقاً للمنفعة”، إذ تكون اللامركزية أكثر فعالية عندما يكون في وسع الوحدات المحلية حشد حصة كبيرة نسبياً من دخلها محلياً. كما يجب أن يترافق نقل المسؤوليات من الحكومة المركزية مع تمويل عملية تنفيذ هذه المسؤوليات، وإلا فإن عملية اللامركزية الإدارية تصبح خيالية إلى حد كبير. وفي هذه الحال ستبقى الوحدات المحلية معتمدة بشكل كبير على تمويل الحكومة المركزية المقدّم لها.
كما يجب أن ينص دستور سوريا القادم على ضرورة تمتع المحافظات بصلاحيات إدارية ومالية واسعة، بما يمكّنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية. وإعطاء المحكمة الدستورية العليا الحق بالنظر بدستورية أي قانون سيصدر، ومدى توافقه مع مبدأ اللامركزية الإدارية. ويكون قرار المحكمة الدستورية باتّاً وملزماً.
ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى ضرورة وضع قانون للانتخابات يحقق العدالة الانتخابية، بحيث يتم تقسيم سوريا إلى دوائر انتخابية عدّة وتكون حصّة كل دائرة مقعدين أو ثلاثة مقاعد أو أكثر حسب الحال. مع مراعاة المساواة في عدد السكان بين الدوائر الانتخابية، ومن الممكن أن يكون ثمة انحراف نسبي، على أن لا يتجاوز 10% بين دائرة انتخابية وأخرى.
إن هذا الأسلوب متبع في أغلب دول العالم، ويُفضّل الاعتماد على عدد السكان المؤهلين للتصويت كأساس لحساب عدد السكان. سواء تعلّق الأمر بانتخابات البرلمان أم بانتخابات المجالس المحلية. وهذا الأمر يسري وفق آلية تقنية محددة تكفل العدالة الانتخابية وتضمن سيادة القانون في الدولة. وليس كما كان الحال وفق قانون الانتخابات السوري حيث كان يتم اعتبار كل محافظة دائرة انتخابية واحدة.
ومن المستحسن أيضاً، وسعياً لتحقيق العدالة الانتخابية، أن يُعتمد نظام الكوتا الذي يمثّل شكلاً من أشكال التدخّل الإيجابي لمساعدة المرأة وبعض الأقلّيات التي قد لا تساعدها قلة عددها السكاني في الحصول على أي مقعد في الانتخابات، كما هي الحال مثلاً بالنسبة للآشوريين واليزيديين في سوريا.
ثالثاً: إضاءات على قانون الإدارة المحلية السوري الحالي:
على الرغم من أن القانون رقم 107 لعام 2011 لم يدخل حيز التطبيق العملي بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في سوريا، وهو القانون الذي نص على اللامركزية الإدارية بالمفهوم الحديث، بحيث يكون الشعب مصدر السلطات كلها (مادة 2)؛ فإنه كان يُخفي بين ثناياه المركزية الإدارية. ولم يمنح الوحدات الإدارية في المحافظات السلطات والصلاحيات المألوفة عادة في أنظمة اللامركزية الإدارية، فبعد أن حدد سلطات مجالس المحافظات والمدن والبلدات؛ ذكر أن لكل محافظة محافظ يُعيّن ويعفى من منصبه بمرسوم من رئيس الجمهورية، ويُعتبر من أعضاء السلطة التنفيذية (مادة39).
إن المحافظ هو رئيس المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة (مادة 29)، ولذلك كان يجب أن تتم تسميته بطريق الانتخاب، خاصة وأن كل ما يتعلق بالمحافظ من تعيين وتمثيل ومهام قد ورد في الباب الرابع من القانون، المعنون بإدارة المحافظة، وفقاً لذلك، يُطرح التساؤل الآتي: كيف يمكن الادعاء بإدارة المحافظة وفق “اللامركزية الإدارية” ومحافظها تم تعيينه من قبل السلطة المركزية؟
إلى جانب ذلك، فإن المادة 44 من القانون منحت المحافظ صلاحيات عقد النفقة، وأمر التصفية والصرف، وهذه صلاحيات خطيرة تسلب مجلس المحافظة أغلب صلاحياته إن لم يكن كلّها. وهذا يعني حصر الوظيفة الإدارية وتجميعها في يد سلطة واحدة رئيسية تنفرد بالبت في الاختصاصات الداخلة في الوظيفة الإدارية جميعها عن طريق ممثليها في العاصمة أو في أقاليمها ومحافظاتها. وهذا هو لبّ المركزية الإدارية وجوهرها.
ما يثير الاستغراب أن القانون 107 موضوع البحث؛ أعطى للمحافظ، ممثل السلطة التنفيذية، صلاحية إعطاء الأمر بإجراء التحقيق في الجرم غير المشهود (مادة 44)، علماً أن هذا الأمر هو من صلاحيات النائب العام في المنطقة أو المحافظة. كما أن المادة 45 أعطته سلطات القضاء المستعجل، إذ نصّت على أنه يحق للمحافظ إذا وقع غصب بيّن على عقار؛ أن يقرّر إعادة الحال إلى ما كانت عليه…الخ. مع العلم أن هذا الأمر هو من صلاحيات القضاء المستعجل. وفي حالات ضيقة جداً، يمكن للنائب العام اتخاذ التدابير اللازمة إنْ كان ثمة ما يشير إلى احتمال وقوع جرم جزائي. إنّ الصلاحيات الممنوحة للمحافظ بموجب القانون 107 لا تؤدي فقط إلى إفراغ اللامركزية الإدارية من محتواها؛ بل تشكّل تدخّلاً سافراً في أعمال السلطة القضائية، وخرقاً لمبدأ فصل السلطات المخترق أصلاً بموجب الدستور وقانون السلطة القضائية.
وبموجب المادة 46، تُلزم الوزارات بأخذ رأي المحافظ في تعيين مدراء الدوائر المركزية والمؤسسات والشركات التي ينحصر عملها في نطاق المحافظة ونقلهم، وذلك سيؤثر سلباً في أداء تلك الدوائر والمؤسسات؛ لأن السعي لكسب رضا المحافظ سيكون هو الشغل الشاغل للشخص الذي سيدير تلك المؤسسات. بدلاً من كسب رضا مجلس المحافظة المُنتخب من قبل أبناء المحافظة.
ولا تخفى على أحد أساليب الدول الأمنية وممارساتها في تعيين المسؤولين وأصحاب القرار، وضرورة تخطيهم ما يُسمّى بالدراسة الأمنية، التي تتطلب الولاء التام للسلطة الحاكمة. وبناء على ما تقدّم فإن النظام السوري وإن كان قد عنون القانون 107 باللامركزية الإدارية؛ فإنه قد سلب هذه اللامركزية بموجب مواد القانون ذاته. ولعل المادة الأكثر صفاقة هي المادة 122 التي أعطت رئيس الجمهورية الحق بحلّ المجالس المحلية على مختلف مستوياتها، والدعوة إلى انتخاب مجالس محلية جديدة خلال تسعين يوماً من تاريخ الحل. وبذلك، وكما ذكرنا سابقاً، فإن السعي لكسب رضا السلطة التنفيذية المتمثلة برئيس الجمهورية والمُمَثَّل بدوره بالمحافظ؛ سيكون هو الهمّ الأكبر لأعضاء المجالس المحلية، وليس السعي لتطوير مدينتهم التي انتخبتهم وبنائها، وهي التي انتخبتهم لهذه الغاية.
باعتبار ما سبق، يمكن القول: إن تطبيق القانون المذكور سيؤدي إلى استئثار الرئيس الإداري وحده، سواء كان هذا الرئيس هو رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس إحدى السلطات المحلية، بسلطة اتخاذ القرارات والبتّ في الأمور الداخلة في نطاق الوظائف الإدارية. وهذا يُعتبر غاية في التركيز الإداري في الإدارة المركزية، بل إنه من أسوأ نماذج الإدارة المركزية. وهو أمر غير مستغرب على النظام السوري الذي كان يمنح بعض الحقوق والصلاحيات ببعض مواد القانون؛ ثم يقوم بسلبها مرة أخرى بمادة أو مواد لاحقة.
عرض حول اللامركزية في فرنسا[1]
ألان كريسناخت
السيدات والسادة..
يشرفني أن أقدِّم هذه الكلمة، بناءً على طلبٍ من الأكاديمية الدبلوماسية الدولية، أمام شخصيات سورية مرموقة نأمل أن تضطلع سريعاً بدور رئيسي في إعادة بناء الديموقراطية في سوريا. إنَّ من أهمِّ أركان إعادة بناء الديموقراطية في بلدٍ ما؛ تحديدُ نظام جديد لامركزي يقوم على الديموقراطية المحلية. وهذه مسألة ضروريَّة. ونحن نبدأ بطرح سؤال مهمّ هنا: هل يمكن لسوريا أن تستفيد من التجربة الطويلة والمتباينة للامركزية الفرنسية؟
والإجابة عن هذا السؤال منوطةٌ بكم، أما أنا فسيقتصر دوري على أن أعرض عليكم مبادئ التنظيم الإداري للأراضي الفرنسية. ثمَّ بعد هذا أتطلّع إلى الاستماع إلى أسئلتكم كلِّها، بهدف غربلة ما أودّ قوله حتى أحدد ما به فائدة لكم وما هو أقل أهمية؛ لأنَّ من نافلة القول إن ثمة أوجه اختلاف كثيرة بين تاريخ البلدين، وكذلك صفاتهما الجغرافية، وخصائصهما البشرية والاجتماعيَّة والثّقافيّة.
وقبل أن نخوض في وصف التنظيم الحالي للامركزية الفرنسية، يجدر بنا أن نعرض التطوّر التاريخي لهذا التنظيم. ويمكن أن نستشف من خلال المراحل المتتالية للامركزية في فرنسا نشأة العلاقات بين السلطتين المركزية والمحلية وتطوّرها على مدار تاريخ هذا البلد، من خلال المحاور الآتية:
- الدولة أساس نشأة “الأمة” الفرنسية:
كانت الأمة الفرنسية شديدة التنوع من حيث سكانها ولغاتها وتقاليدها وثقافاتها، وقد تشكَّل فيها هذا التَّنوُّع بشكل تدريجي من خلال إسهامات مختلفة، وعناصر تاريخيَّة وجغرافيَّةٍ وبشريَّةٍ متعدَّدة. لكنْ ظلت حركة الاتصالات والنقل بين مختلف المدن والأقاليم الفرنسيَّة في العصور السابقة بطيئة لفترة طويلة، مما جعل من الصعب توحيد القواعد والقوانين المعمول بها في شتى أنحاء البلاد إلى زمنٍ قريب.
كانت السلطة الملكية الفرنسيَّة قد سعت على مرّ العصور إلى بسط سيطرتها على الإقطاعيين المحليين، لكنَّ النِّظام الملكي الفرنسي لم يكن قد نجح تماماً في تحقيق هذا الهدف حتى عشية الثورة الفرنسية، فقد كان كلٌّ من الكاردينال ريشوليو والملك لويس الرابع عشر قد نجحا في إخضاع كبار الإقطاعيين لسلطتهما إلى حد بعيد. غير أن تلك السلطة لم تكن مطلقة، وفوق هذا لم يكن ثمة فصل بين السلطات في البلاد. وكانت الديموقراطية غائبة، بيد أن ذلك لم يكن يعني فعالية السلطة المركزية ونجاعتها في إدارة الأمور في شتى أنحاء البلاد.
وفي نهاية حقبة نظام ما قبل الثورة، كان هناك تنوّع كبير لأطر التنظيم المحلية. إذ كانت هناك تقسيمات إدارية وقضائية وعسكرية وكنسية غير متطابقة فيما بينها. كما كانت العلاقة بين الملكية ومكونات السلطات المحلية قائمة على نوع من التعاقد، وكانت كلّ دائرة تحظى بسلطات مختلفة حسب تاريخ انضمامها إلى المملكة الفرنسية. كما كانت هناك بعض المواثيق التي تعطي بعض الحقوق والحريات لبعض المدن دون المدن الأخرى، وكانت المميزات القائمة على قوانين استثنائية هي في الواقع القاعدة المعمول بها والمتعارف عليها في البلاد.
ويمكن اعتبار هذا التنوع بمثابة انعكاس مشروع لأوجه التباين المحلية، أو نتيجة طبيعية لتطوّر التاريخ والجغرافيا في فرنسا. غير أنها بدأت تظهر منذ القرن السابع عشر أشبه بالفوضى العارمة أو بالحاجز الذي يحول دون بسط السلطة الملكية على شتى أنحاء البلاد، كما أنَّها أصبحت مصدراً غير مبرر لانعدام المساواة. وكان الملك ممثّلاً في شخص موظفين ملكيين في الأقاليم، ولا سيما من خلال “ولاة” يمثّلونه. غير أنَّ سلطة هؤلاء الولاة أيضاً لم تكن متكافئة، وكانوا يصطدمون في الكثير من الأحيان بممثلي السلطات المحلية.
- انتشار مبدأ المساواة خلال الثورة الفرنسية وبناء نظام مركزي مع تنظيم موحد للأراضي:
تنص المادة السادسة من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن على أن: “القانون هو عبارة عن إرادة الجمهور. فلكل واحد من الجمهور أن يشترك في وضعه سواء كان ذلك الاشتراك بنفسه أو بواسطة نائب عنه. ويجب أن يكون هذا القانون واحداً للجميع. أي أن الجميع متساوون لديه، من حيث الحماية التي يوفرها لهم أو العقاب في حال عدم احترامه”[2]. والمقصود من جملة “القانون واحد للجميع” هو بالطبع إلغاء امتيازات رجال الدين والطبقة الأرستوقراطية، فلم يعد بإمكان هؤلاء الانتفاع بقوانين خاصة بهم دون بقية الشعب الفرنسي، وصار المواطنون جميعهم متساوين أمام قانون واحد. كما أن مبدأ المساواة كان يعني أيضاً المساواة القانونية بين شتى أنحاء البلاد وأقاليمها. فلم يعد من الممكن سَنُّ قانون خاص بمدينة أو بإقليم بمعزلٍ عن الأقاليم الأخرى. واختفى التقسيم الإداري القائم على الولايات، وحلَّ محله نظام المقاطعات التي صارت متساوية من حيث التنظيم والسلطات.
وانتصر اليعقوبيون (وهم أعضاء فريق ثوري يسمى بنادي اليعقوبيين، نسبة إلى دير القديس يعقوب، الذي اعتاد هؤلاء التجمّع فيه، وهم يمثلون باريس) على الجيرونديين (نسبة إلى مقاطعة الجيروند في جنوب غرب البلاد). وكان الجيرونديون يخشون سيطرة النخبة الباريسية، غير أنَّ هذا ما حدث بالفعل، فأصبحت فرنسا دولة موحدة مركزية.
وكادت المقاطعات أن تُقسَم بشكل عشوائي على هيئة مربعات متساوية الحجم على غرار الولايات الأمريكية. بيد أنه في الحالة الأمريكية كانت تلك الولايات تقسم على أراضٍ شبه خالية من السكان، على حين أنَّ مثل هذا التقسيم كان سيكون بعيداً كلّ البعد عن الواقع الجغرافي والبشري لدولة مثل فرنسا. فأنشئت ثلاث وثمانون مقاطعة (تلتها لاحقاً مقاطعات أخرى دون أن يؤثّر ذلك في التقسيم الإداري)، وكلها أخذت في الاعتبار الواقع الجغرافي والبشري الذي تقدَّم ذكره، مع ضمان أن يكون المركز الإداري لكل مقاطعة على بُعْدٍ لا يتجاوز مسافة يوم واحد من أية بقعة فيها إن قُطِعَت هذه المسافة على ظهر فرس. فاختفت الولايات القديمة، وأصبحت المدن كلها تعامل كبلديات متساوية الحقوق فيما بينها، وفقد الجميع امتيازاته السابقة. وكان هذا التقسيم الناجم عن الثورة الفرنسية بعيداً كل البعد عن مفهومنا الحالي للامركزية؛ إذ كان يتم تعيين مسؤولي البلديات والمقاطعات تعييناً لا انتخاباً، كما كان للمحافظ جميع الصلاحيات لتنفيذ توجيهات السلطة الوطنية المركزية. وصار توحيد المعايير هو القاعدة المعمول بها في المقاطعات جميعها.
- نشأة الديموقراطية المحلية في القرن التاسع عشر:
في القرن التاسع عشر أصبح للبلديات والمقاطعات شخصية اعتبارية، أي أنها أصبحت كيانات مستقلة على المستوى القانوني، وأصبحت تحصل على موارد مالية مخصصة لها. وأصبح ثمة مجالس محلية ومجالس مقاطعات (تسمى أيضاً بالمجالس العامة) منتخبة، غير أن عدد من يحق لهم التصويت كان محدوداً. كما كان يتم اختيار رؤساء البلديات من طرف المجلس المحلي بالتعيين وليس بالانتخاب.
ثمّ جاءت هزيمة معركة “سيدان”[3] لتنهي فترة الإمبراطورية الفرنسية الثانية التي حلت محلها الجمهورية الثانية، مما أدى إلى اجتياز مرحلة حاسمة في تطوّر آليات اللامركزية في فرنسا. حيث تم سَنُّ قانون الخامس من نيسان/إبريل عام 1884 الذي جعل من رئيس البلدية شخصيةً تُنتخب من قِبَل أعضاء المجلس المحلي، علماً أن هؤلاء أنفسهم هم أعضاء منتخبون من قِبَل المواطنين. كما أصبح المجلس المحلي “يدير بالتشاور والتداول شؤون البلدية”، الأمر الذي منح هذا المجلس اختصاصات عامة وواسعة النطاق.
وبدءاً من هذه المرحلة يمكن وصف تقسيم الأراضي الفرنسية بالصفة اللامركزية، وذلك في الحدود التالية:
1ـ تُدار البلديات والمقاطعات من طرف مجالس منتخبة.
2ـ تخضع مداولات البلديات لرقابة مسبقة من المُحافظ، فلا يمكن تنفيذ قرارات مجالس البلديات من دون موافقته. كما يُعتبر المحافظ المسؤول التنفيذي للمقاطعة، فهو الذي يُعد قرارات مجلس المقاطعة وينفذها ويعتمدها ويفرض رقابته المسبقة عليها.
- اللامركزية الحالية في ثلاث مراحل:
لم يتوقف الجدل الإيديولوجي بشأن اللامركزية الفرنسية قط، منذ صراع اليعقوبيين والجيرونديين، وإن كانت فرنسا قد أحرزت تقدّماً لا رجعة فيه منذ أربع وثلاثين سنة في هذا المجال. ففي القرن العشرين وكذلك في مطلع القرن الحالي، اتُّخِذَتْ عدة إجراءات محورية لتحقيق اللامركزية، مما زاد من سلطات الجماعات المحلية. ويمكن تقسيم هذه الإجراءات إلى ثلاثة فصول. كان أولها في سنة 1982–1983 وثانيها في سنة 2003-2004 وثالثها في سنة 2014-2016.
الفصل الأول للامركزية الحديثة 1982–1983:
في عقد السبعينات خُفِّفت الرقابة التي كانت تفرضها السلطة المركزية على أعمال السلطات المحلية من خلال المحافظين، وذلك بتخفيض عدد مداولات البلديات التي تخضع لرقابة المحافظ. كما أصبحت البلديات والمقاطعات تحصل على موارد مخصصة لتشغيلها بالإضافة إلى موارد استثمارية توزع عائداتها بالشكل الذي ترتئيه السلطة المحلية. وصار بإمكان المجالس المحلية ومجالس المقاطعات التصويت على نسب الضرائب المباشرة ومعدلاتها التي تفرض على المواطنين على المستوى المحلي. وجاء أول تغيير نوعي من خلال قوانين 2 آذار/مارس 1982 و7 كانون الثاني/يناير و22 تموز/يوليو 1983 التي اقترحها الوزير غاستون دوفير الذي كان أيضاً رئيساً لبلدية مارسيليا آنذاك، والتي تتضمن ما يلي:
1ـ الأقاليم التي كانت منذ عام 1972 بمثابة تقسيمات إدارية غير منتخبة، أصبحت -على غرار البلديات والمقاطعات- تحظى بمجلس إقليم يُنتخب من طرف المواطنين ويَنتخب بدوره رئيساً له.
2ـ لم يعد بإمكان المحافظ أن يعترض على قرار اعتمده المجلس المحلي أو مجلس المقاطعة وكذلك مجلس الإقليم المنشأ حديثاً، بل يمكنه فقط إحالة هذه القرارات إلى الجهات القضائية الإدارية والمالية المختصة. أي إحالة القرارات الإدارية إلى المحكمة الإدارية للتحقق من عدم مخالفتها للقانون، وإحالة القرارات المتصلة بالموازنة إلى دائرة المحاسبات لمراقبتها والتحقق من قانونيّتها. ويمكن لهاتين الجهتين القضائيتين وحدهما إلغاء أية قرارات صادرة عن المجالس المذكورة في حال تبيَّن أنَّها غير قانونية.
3ـ لم يعد المحافظ مسؤولاً تنفيذياً للمجلس العام (مجلس المقاطعة)، كما أنه لم يعد رئيساً لمجلس الإقليم، بل أصبح رئيسا هاتين الهيئتين هما المسؤولان التنفيذيان في كلا المجلسين، على غرار رئيس البلدية في بلديته.
4ـ أصبح القانون ينص على توزيع الاختصاصات بين المستويات الإدارية المختلفة. فظلت البلدية تحتفظ باختصاصها العام للقضايا البلدية. أما الأقاليم فصارت صاحبة الاختصاص في مجال التخطيط الاقتصادي والتدريب المهني والتعليم الثانوي (بناء المدارس الثانوية وصيانتها، بغض النظر عن المناهج التعليمية وإدارة شؤون المعلمين).
5ـ وأما المقاطعات فإنّها أصبحت المسؤولة عن حالة الطرق والمساعدات الاجتماعية والمدارس الإعدادية (وتخضع في هذا الصدد للقيود المفروضة نفسها على الأقاليم بشأن التعليم الثانوي) والنقل المدرسي.
6ـ تم وضع نظام أساسي موحد للموظفين الحكوميين على مختلف هذه المستويات الإدارية الثلاثة.
ثمّ جرت عدة إصلاحات في عقد التسعينات مفادها التشجيع على التعاون بين البلديات التي يبلغ عددها ستّاً وثلاثين ألف بلدية في فرنسا. وكان من الضروري تخفيف الأعباء الإدارية الناجمة عن هذا العدد الهائل من البلديّات، ولكن كان من الصعب الدمج بين بلدية وأخرى لأسباب تتعلق برمزية وهوية كل منها. ثم بدا من الأسهل عقد شراكات بين بعض البلديّات مع التركيز على التعاون بينها كحلٍّ واقعي لمشاكل الإدارة. وبذلك شعرت البلديات الصغيرة بأنها لم تفقد هويتها، على حين أصبحت بعض السلطات والصلاحيات تناط بهيئات ومؤسسات تجمع بين عدة بلديات في آن معاً.
الفصل الثاني للامركزية 2003–2004:
بعد مراجعة الدستور الفرنسي في عام 2003 أُدخلَت بعض التعديلات على مبادئ اللامركزية الفرنسية بمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك جان بيير رافاران، والتي مضمونها:
1ـ تعديل المادة الأولى من دستور الجمهورية الفرنسية لتشمل الإشارة إلى أن الجمهورية الفرنسية “تنظيمها لا مركزي”. وهو تعبير ذو رمزية قوية، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الطابع المركزي الكبير الذي اتسمت به الجمهورية الفرنسية الأولى.
2ـ التأكيد على مبدأ تراتبية الصلاحيات على أساس الكفاءات. إذ نصّ الدستور على أنه “يخوّل للجماعات المحلية اتخاذ القرارات في كل الاختصاصات التي يمكن تطبيقها في إطار اختصاصها بأفضل طريقة ممكنة”[4].
3ـ تمّ إدخال مبدأ “التجريب”، أي إنه أصبح “يجوز للجماعات المحلية أن تخالف على سبيل التجربة وفي موضوع معين ولمدة محدودة أحكام القوانين أو اللوائح التي تسري على ممارسة اختصاصاتها”[5].
4ـ أصبح بإمكان الناخبين تقديم العرائض وطلب الاستفتاء بشأن بعض القضايا ذات الطابع المحلي.
5ـ أصبح من الممكن منح وضعيات قانونية مختلفة ومتنوعة لجماعات ما وراء البحار.
6ـ أصبح القانون يؤكد صراحة على أن “كل نقل في الاختصاصات بين الدولة والجماعات المحلية يرافقه مَنْحٌ لموارد مساوية لتلك التي كانت مخصصة لممارستها”.
وجاء قانون 13 آب/أغسطس عام 2004 لينص على نقل مزيد من الاختصاصات للجماعات المحلية، فأصبحت غالبية الطرق السريعة الوطنية تخضع لسلطة الأقاليم، كما أصبحت المقاطعات تحظى باختصاصات اجتماعية جديدة ولا سيما إدارة المساعدات الاجتماعية لمحدودي الدخل.
الفصل الثالث للامركزية 2014-2016:
أعلنت حكومة جان مارك إيرولت مرحلة جديدة للامركزية عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2012، وكانت الحكومة تفكّر مبدئياً في إلغاء المقاطعات على المدى الطويل، غير أن المعارضة أكّدت أنها لن تصوّت لصالح التعديلات الدستورية الضرورية للخوض في هذه العملية، فتخلت الحكومة عن فكرتها.
بدأ الفصل الثالث للامركزية بقانون 27 كانون الثاني/يناير 2014 بشأن المدن الكبرى أو الجماعات الحضرية (مدينة كبرى تضم عدة بلديات).
لم يكن التنظيم الأول لأراضي الجمهورية الفرنسية يعترف بوجود الأقاليم، كما أنه لم يولِ اهتماماً خاصاً للمدن. بل كانت المدينة على المستوى الإداري تُعامل معاملة البلدية فحسب، وإن كانت لها بعض الخصائص الانتخابية بسبب ارتفاع عدد سكانها. وكان ثمة مشروع قانون عُرض عام 1982 تحت عنوان “قانون باريس ـ ليون ـ مارسيليا”، ينص على تنظيم إداري خاص لأكبر ثلاث مدن في فرنسا. علماً أن باريس تشكّل بلدية ومقاطعة في آن معاً، وأن كلاً من هذه المدن الثلاث تنقسم إلى عدة دوائر. وتم التفكير في طرح تقسيمٍ إداري يضم عدة بلديات في آن معاً لتخفيف العبء الإداري الواقع على عاتق المدن الكبرى، ولا سيما التجمعات الحضرية الكبرى التي أنشئ لها وضع قانوني خاصّ بها في عام 2010.
ومع اعتماد قانون عام 2014 المشار إليه صار بإمكان التجمّعات الحضرية الكبرى ممارسة اختصاصات كانت توكَلُ عادة إلى المقاطعات أو حتى الأقاليم. وصارت التجمّعات الحضرية لكلّ من باريس الكبرى وإيكس ـ مارسيليا ـ بروفانس وليون تحظى بوضع خاص، كما أصبح التجمع الحضري لمدينة ليون يضم أجزاءً من مقاطعة الرون. وثمة مناطق ريفية واقعة داخل المقاطعات كانت تعتبر مشروعات لتقسيمات إدارية أخرى، أصبحت الآن تسمى “مجمعات التوازن للأراضي والأرياف”[6]، وهي بمثابة هيئات حكومية منشأة بموجب اتفاق بين عدة بلديات وجماعات محلية لتيسير التعاون فيما بينها.
وبغية توضيح اختصاصات مختلف الجماعات المحلية أصبح من الممكن اختيار إحدى هذه الجماعات (بلدية أو مقاطعة أو إقليم) كمنسق في بعض المجالات التي تتداخل فيها عدة مستويات إدارية. فأصبحت الأقاليم هي الرائدة على سبيل المثال في قضايا التنمية المستدامة التي يمكن أن تدخل أيضاً في اختصاصات جماعات محلية أخرى (مقاطعات أو بلديات). وجاء قانون 16 كانون الثاني/يناير 2015 ليضيف إصلاحاتٍ هائلة في عدد الأقاليم. وكثيراً ما كان النظام الإداري الفرنسي يتعرّض للانتقاد بسبب تعدّد طبقاته ومستويات الجماعات المحلية وعددها. إذ إنّه يشتمل على 36 ألف بلديّة و101 مقاطعة و22 إقليماً في أراضي فرنسا القارية (أي تلك الأراضي التي لا تشمل الجماعات المحلية فيما وراء البحار).
وبالنسبة إلى البلديات اتضح أن الدمج بينها لم يأتِ سوى بنتائج محدودة، فتم الجمع بينها من خلال هيئات مشتركة دون دمجها، وساعد هذا الأمر في حلّ الأزمة. أما المقاطعات، فقد كانت هناك عدة مطالب بإلغائها في الماضي، لكنها بقيت ولم تُلغَ. أمَّا اليوم فإنَّ الأصوات المطالبة بتخفيض عددها أخذت تتعالى، لا سيما وأنه لم يعد هناك من حاجة إلى السفر على ظهر فرس على مدار يوم كامل للوصول إلى مركزها الإداري (كما كان الحال قبل الثورة الفرنسية وقبل الثورة الصناعية وتطور وسائل النقل). وأما بالنسبة إلى الأقاليم فإنَّها كانت تُنتَقَدُ بسبب ارتفاع عددها مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، ولا سيما ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. وكانت هناك دعواتٌ لتخفيض عددها إلى 13 إقليماً عوضاً عن 22. وكان الدمج بين بعض هذه الأقاليم صعباً إلى حدّ كبير ولا سيما في إقليم ألزاس ـ لورين ـ شامباني ـ أردين ونور با دي كاليه ـ بيكاردي وميدي بيرينيه ـ لانغدوك روسيليون. كما كان من الصعب اختيار مراكز إدارية للأقاليم الجديدة هذه، فالواقع أن مدينتي تولوز ومونبيلييه من الحجم نفسه تقريباً. ولم يكن هناك من معيار واضح لاختيار إحداهما دوناً عن الأخرى كمركز لإقليم ميدي بيرينيه ـ لانغدوك روسيليون. وكان من الضروري اختيار اسم للمناطق الجديدة بعد إجراء هذا الإصلاح. كما جاءت انتخابات الأقاليم الأخيرة في هذا الإطار، وكانت هذه أول مبادرة حكومية تؤدي بشكل فعال إلى تقليص عدد الجماعات المحلية في فرنسا.
- تعدد خيارات اللامركزية: كورسيكا وأراضي ما وراء البحار
كان مبدأ المساواة أساساً للتنظيم الإداري الذي صحب الثورة الفرنسية، وكان الهدف منه ضمان عدم التمييز بين مختلف الأراضي الفرنسية. وانطلاقاً من تفهُّم بعض الخصائص والمسافات الجغرافية قرّرت السلطات الفرنسية تقسيم مقاطعة كورسيكا إلى مقاطعتين بين شمال الجزيرة وجنوبها. وكانت كلتاهما تخضعان للقانون العام الساري على شتى الجماعات المحلية.
وفي عام 1991 تم اجتياز مرحلة هامة في تاريخ التقسيم الإداري للإقليم، حيث أُنشِئت جماعة محلية جديدة حلّت محل إقليم كورسيكا الذي يضم المقاطعتين. وباتت السلطة التنفيذية في حالة كورسيكا في يد هيئة رئاسية تحمل اسم “المجلس التنفيذي” المنتخب من طرف الجمعية المحلية، وهو مجلس يخضع لمساءلة هذه الجمعية التي يمكنها سحب الثقة من المجلس التنفيذي. وتشبه هذه الآلية تلك التي تخضع بموجبها حكومة الجمهورية الفرنسية لرقابة الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي). كما تم إنشاء مجلس اجتماعي واقتصادي وثقافي لكورسيكا. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مثل هذه السلطات التَّنفيذيَّة للأقاليم والمقاطعات كانت توضع عادةً في أيدي رؤساء مجالسها.
وتشكّل مقاطعات ما وراء البحار هي الأخرى حالة خاصة، فعندما أصبحت مستعمرات الأنتيل وغويانا والريونيون أقاليم فرنسية في عام 1946 تم اختيار نظام إداري خاص بهذه الجماعات المحلية الأربعة. غير أن الوضعية الخاصة التي حظيت بها مقاطعات ما وراء البحار كان مردّها تكييف بعض التشريعات لتتماشى مع خصائص هذه الأراضي دون المساس بتنظيمها الإداري الداخلي الذي يشبه في الغالب مقاطعات فرنسا القارية. لكنْ عندما سَنَّ البرلمان الفرنسي في عام 1982 قانوناً لضمّ جميع مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار تحت مظلة مجلس واحد، اعتبر المجلس الدستوري هذا التشريع مخالفاً للدستور الفرنسي، فأصبح من الصعب جداً التفكير في أي إصلاح يميز بوضوح بين مقاطعات ما وراء البحار والمقطعات القارية من حيث التنظيم الإداري دون تعديل مسبق للدستور.
وقد حدث بالفعل تعديل دستوري في عام 2003 سمح بتطورات كبيرة في أوضاع المقاطعات الأربعة الواقعة ما وراء البحار (والتي أصبح عددها اليوم خمسة. بعد أن انضمت إليها مايوت التي كانت في الماضي جماعة محلية وصارت مقاطعة).
وفيما عدا الريونيون التي لم ترغب في الاستفادة من نظام خاص وفضّلت الامتثال لنظام إداري مشابه لما هو متّبع في المقاطعات القارية، أصبح بإمكان المقاطعات الأخرى الواقعة فيما وراء البحار التجمّع تحت مظلة مجلس واحد، بناء على رغبة السكان في ذلك من خلال استفتاء محلي. وهذا ما اختارته كلّ من مارتينيك وغويانا اللّتان تنتميان الآن لجمعية محلية واحدة تضمّ اختصاصات المقاطعة والإقليم في آن معاً. أما غوادلوب فلم ترغب في جمع هذه الاختصاصات في هيئة واحدة. ونميز هنا بين الريونيون التي استغنت عن حقّها الدستوري في ذلك، بينما أبقت غوادلوب على هذا الحق لكنها أجّلت تطبيقه؛ لأنّها لا تريد الاستفادة منه في الوقت الراهن.
وقد فتح التعديل الدستوري لعام 2003 الباب أمام بعض الفرص المبتكرة في الإدارة، فصار من الممكن لمقاطعات ما وراء البحار تكييف بعض التشريعات لتكون أكثر تماشياً مع أوضاعها الخاصة بمبادرة منها، ولكن بشرط موافقة البرلمان، بينما كان زمام المبادرة في هذا الصدد في الماضي في يد البرلمان وحده. وفيما يتعلق بأراضي ما وراء البحار ثمة جماعات محلية تختلف حالتها عن حالة المقاطعات؛ إذ تقع بعيداً (غالبيتها في جنوب المحيط الهادئ) باستثناء سان بيير وميكلون التي تقع في شمال الأطلنطي، وسان مارتن وسان بارتيليمي اللّتان كانتا جزءاً من جزيرة غوادلوب وانفصلتا إدارياً عنها. هذه الجماعات المحلية كلها اختارت البقاء ضمن الجمهورية الفرنسية عام 1958 في الوقت الذي اختارت فيه البلدان الأفريقية الاستقلال.
وتحظى بولينيزيا الفرنسية بحكم ذاتي معزز، كما تحظى كاليدونيا الجديدة بنظام دستوري خاص بها نتيجة لاتفاق “نوميا” الذي أبرم عام 1998 على أن يكون سارياً لمدة عشرين عاماً. وكان هذا الاتفاق بمثابة امتداد لاتفاقات ماتينيون التي أنهت نزاعاً عنيفاً دام سنوات طويلة بين طائفة الكاناك التي كانت تطالب بالاستقلال ومجموعة أخرى من السكان المؤيدين لاستمرار كاليدونيا الجديدة جزءاً من الجمهورية الفرنسية. وثمة قاسم مشترك بين هاتين الجزيرتين الواقعتين في جنوب المحيط الهادئ؛ إذ تتحكم مؤسساتهما المحلية في معظم الاختصاصات ولا يبقى للدولة سوى الشؤون الخارجية والدفاع والأمن والعدالة وسك العملة. وعلى هذا فإنّ مختلف الهيئات التداولية في هاتين الجزيرتين تقوم بوضع شتى المعايير والخطوط التوجيهية؛ إذ لا تطبق فيهما قوانين البرلمان الوطني لا سيما فيما يخص جباية الضرائب التي يصوت عليها البرلمان في باريس. وما يحدث في بولينيزيا الفرنسية وكاليدونيا الجديدة هو أن المؤسسات المحلية تصوّت على الضرائب وتوزّع إيراداتها حسبما ترتئيه.
وتقوم الجمعية المحلية بانتخاب حكومة محلية كما تنتخب جمعية بولينيزيا رئيساً يُسمى “رئيس بولينيزيا الفرنسية”، أما في كاليدونيا الجديدة فقد تم إدخال العديد من الابتكارات في نظام الحكم. فثمة برلمان كاليدونيا الجديدة الذي يتألف من ثلاث جمعيات تمثّل المناطق الثلاثة التي تشكّل أراضي هذه الجزيرة، والتي تسنّ “قوانين البلاد” في عدد من المجالات والاختصاصات. وتتبع كاليدونيا الجديدة الآليات الوطنية الخاصة بالقوانين التي يسنّها البرلمان الوطني نفسها. أي إن مشاريع القوانين تُعرض على مجلس الدولة قبل اعتمادها بشكل نهائي في برلمان كاليدونيا، ولا يمكن بعد ذلك الطعن عليها سوى أمام المجلس الدستوري (على غرار القوانين الوطنية) وليس أمام القضاء الإداري كما هو الحال في الجماعات المحلية الأخرى.
وملخّص ما تقدَّم قوله: إن النظام المتّبع في كلّ من بولينيزيا الفرنسية وكاليدونيا الجديدة أشبه بنظام فيدرالي، بيد أن ممثل الدولة في كلتا الجزيرتين، والمسمى بالمفوض السامي، يُعَيَّنُ من طرف السلطة المركزية ويضطلع بدور المحافظ مساهماً في التحقق من شرعية القرارات التي تتخذها سلطات الجزيرتين وقانونيتها.
- إشكالية اللامركزية:
ليس ثمة نظام إداري للأراضي يعتبر مثالياً بالمطلق في حدّ ذاته، بل ينبغي أن يناسب احتياجات البلد في سياق زمني محدد. وقد أظهرت المراحل التاريخية التي مرت بها فرنسا فيما يخص اللامركزية أن تنظيماً أكثر أو أقل مركزيةً يمكن أن يتفق مع الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية حسب الوضع الذي يعيشه البلد. وقبل أن تعزموا على تطبيق هذه المنهجية على الوضع في سوريا، سنحاول رصد أنواع سياسات اللامركزية وفقاً لمختلف المعايير.
- الوحدة الوطنية واللامركزية:
يشير تاريخ فرنسا إلى إرادة نابعة من النظام الملكي، وكذلك النظام الجمهوري، وأخيراً النظام الإمبريالي، لتطبيق اللامركزية، سواء لتأسيس الوحدة الوطنية أو للحفاظ عليها. وقد كان الاعتراض على الاتّساع في اللامركزية يرجع إلى التخوّف من خطر تفكك الوحدة الوطنية والعودة إلى أشكال التفاوت والتباين واللامساواة التي كانت قائمة في عصر النظام الملكي الفرنسي القديم. وقد كان هذا التخوّف أكثر ظهوراً في الأراضي الوطنية التي كانت قد ظهرت فيها حركات استقلالية مطالبة بالانفصال عن فرنسا.
إن هذا الخطر ينبغي أن تتمّ السيطرة عليه، وأن يُحَدَّ منه. ويعتمد الحد منه على الصلاحيات التي تُمنَح للمؤسسات المحلية. وأكثر ما يَحُدُّ من هذا الخطر احتفاظ الحكومة المركزية بالاختصاصات المؤسِّسة لسلطة الدولة، التي هي الأمن الداخلي والدفاع، بالإضافة إلى العدالة والشؤون الخارجية، وكذلك سلطة اتخاذ القرار بخصوص كبرى المسائل الاقتصادية والاجتماعية.
وينبغي الحذر أيضاً ممّا هو عكس ذلك؛ لأنّ الاتّساع في إضفاء طابع مركزي مفرط في مناطق ذات خصوصية معيّنة من أي نوعٍ كانت، يمكن أن يؤدي إلى تأصيل هذه الخصوصيات وتشدّدها والإفراط فيها بدلاً من القضاء عليها. إضافةً إلى ذلك، فإن تكييف السياسات المحلية لحالات خاصة هو بمثابة ضمان لفاعلية تطبيق السياسات العامة.
- اختصاصات الدولة واللامركزية:
بداية يختلف النظام اللامركزي عن النظام الفيدرالي في أنَّ الدولة المركزية تحتفظ فيه بـ”صلاحية الصلاحية”، أي أن الدولة هي التي تؤول إليها صلاحية تحديد الصلاحيات المنقولة إلى السلطات المحلية، وأن من حقّها أن تبدل تلك الصلاحيات زيادة أو نقصاناً. ويمكن القول بشكل عام: إن السلطات المحلية لا تمسّ الاختصاصات المحفوظة تقليدياً للدول المركزية، كما أنها في المسائل التي تضطلع بها لا تغطي اختصاصاتها المسألة برمتها. على سبيل المثال، يمكن للجماعة المحلية أن تكون لها اختصاصات في مجال التعليم والصحة، إلا أن الدولة تحتفظ بسلطة وضع القواعد العامة في هذين المجالين، ومن هذه القواعد مبادئ التعليم، كضرورة الذهاب إلى المدرسة، والحق في الصحة، وشروط مزاولة النشاطات الطبية أو القواعد الأخلاقية المفروضة على الأفراد العاملين في المجال الطبي، ومنها أيضاً منع بعض التصرفات والسلوكيات الأخرى، بالإضافة إلى فرض التطعيمات، وغيرها من الأمور التي تظلّ من صلاحيات السلطة المركزية.
وثمة درجات في عمليات نقل الاختصاصات هذه، ويمكن قياسها في مجال الأمن أو العدالة. في مجال الأمن الخارجي لا يمكن أن يخضع الجيش إلا للسلطة المركزية، فوجود جيوش تحت تصرف الجماعات المحلية يمثل خطراً أساسياً على الوحدة الوطنية، كما كانت الحال مع الجيوش الخاصة في عصر الإقطاع. أما في مجال الأمن الداخلي فالإشكالية أكثر تعقيداً والحلول أكثر تنوعاً. ففي فرنسا توجد قوات الشرطة الوطنية وقوات الدرك الوطني –وهي قوات تابعة لوزارة الداخلية- وهما المؤسستان الوحيدتان المسلحتان. وتوجد كذلك قوات شرطة البلدية، ومع تكرار مطالباتها بأن تكون لها سلطات الشرطة القضائية إلا أنّها لا تتمتّع بذلك، ولا تحمل أسلحة نارية. أمّا الدول ذات النّظام الفيدرالي فإنّ الوضع فيها مختلف، إذ يكون فيها تقاسم للأدوار منصوص عليه قانوناً، ما بين قوة عامة تابعة للدولة الاتحادية الفيدرالية وقوات عامة تابعة للدول الموحدة، وكذلك قوات الجماعات المحلية، وكلها تحظى بتسليح يكون أحياناً ثقيلاً جداً.
ويبدو قطاع العدالة مثيراً للاهتمام أيضاً. ففي فرنسا -وعلى غرار العديد من الدول- تعتمد العدالة حصرياً على الدولة المركزية. فالدولة هي التي تضع القواعد الضمنية والإجرائية، وهي التي تعيّن القضاة، أو بالأحرى تعمل على تطبيق مبدأ استقلال القضاء بشكل سليم على يد مؤسسات وطنية مستقلة عن الدولة، منها المجلس الأعلى للقضاء الذي يختلف دوره عن القاضي الذي يحكم -المعروف باصطلاح “قاضي الحكم”- والقاضي الذي يعمل على تطبيق القانون وهو قاضي النيابة. أما الدول الفيدرالية فيختلف وضع القضاء فيها؛ إذ ثمة مؤسسات اتحادية، ومحكمة فيدرالية اتحادية تضمن وحدة الحكم القضائي، بينما تختلف قواعد القانون المطبقة من ولاية إلى أخرى، لذلك لا يزال الحكم بالإعدام قائماً في بعض الولايات الأمريكية بينما هو ملغى في ولايات أخرى.
- تنظيم عدم تجمع السلطة في مركز واحد وتنظيم اللامركزية:
في فرنسا، تُعرف حركة نقل سلطات الدولة المركزية إلى الجماعات المحلية باللامركزية، وتُعرف حركة نقل وزارات إلى ممثلين محليين للسلطة المركزية تعيّنهم تلك السلطة بعدم تركيز السلطة في مؤسسة واحدة. وبالنسبة إلى عدم تجمع السلطات في مركز واحد يُعَدُّ المحافظون هم الفاعلين الأساسيين الذين تؤول إليهم المهام. فهم ذوو سلطة على موظفي الدولة الآخرين في المقاطعات والأقاليم، باستثناءٍ تقليدي يخص العسكريين -بخلاف درك الأمن العام- والقضاة وممثلي التعليم الوطني (فيما يتعلق بالمواد التربوية) ومحاسبي الخزانة العامة، فجميع هؤلاء تعيّنهم الحكومة من خلال مجلس الوزراء على مستوى المقاطعات والأقاليم.
في فرنسا، تُعتبر عملية اللامركزية مترافقةً مع عملية عدم تجمع السلطات في مركز واحد. ويسمح تمثيل الدولة على الأراضي الوطنية بضمان المنطق في تطبيق السياسات الوطنية، وبضمان مراقبة متناسقة لنشاطات الجماعات المحلية.
- مسائل خاصة في إطار اللامركزية – أوضاع حسب الحالة:
قد لا تكون اللامركزية أحادية البعد؛ إذ يمكن تحديد حالات خاصة تُطَبَّقُ فيها اللامركزية بشكل أكبر أو بشكل مختلف في أجزاء من الأراضي الوطنية دون غيرها. حيث تبرر خصوصية هذا الجزء باختلاف الوضع الذي هو فيه، وقد سبق أن تناولنا ذلك في إطار المثال الفرنسي في حالة الوطن الأم (المتروبول أو الأراضي القارية) وفي كورسيكا والجماعات المحلية الواقعة فيما وراء البحار. وهذا التنوّع قد يزداد أو ينقص دون أن تتأثر الوحدة الوطنية سلباً.
- التنمية واللامركزية:
في حالة فرنسا، لعبت الدولة في مرحلة أولى دوراً أساسياً في مجال التنمية الاقتصادية، من خلال التخطيط والتمويل بشكل واسع -وبشكل مباشر وغير مباشر- لكبرى مشاريع البنية التحتية، من طرق وسكك حديد ومحطات وشبكات كهرباء. كما لعبت الدولة دوراً كبيراً في تحديد أهداف الأمة من حيث التنمية الاقتصادية، ومن خلال التخطيط على سبيل الإشارة وليس الإدارة، مما كان يمثل إطاراً لقرارات الدولة وكبرى الشركات.
في مرحلة ثانية، ومع سياسة التقسيم إلى أقاليم ونقل الصلاحيات إلى الأقاليم، اتضح أن الدولة لا تستطيع أن تقوم بتلك الأدوار وحدها، لأسباب مختلفة، منها أسباب تتعلق بالتحكّم في الميزانية. ولأن الجماعات المحلية كانت أقرب من الواقع الاقتصادي في الميدان، طوّرت هذه الجماعات المحلية، من بلديات ومقاطعات بشكل أساسي، سياساتٍ تدعم الاقتصاد، من خلال تمويل البنى التحتية -ونمثّل لذلك بتوقيع العقود مع شركة سكك الحديد الوطنية لتقديم خدمات على شبكة سكك الحديد في الإطار المحلي، أو بالمساعدة في إنشاء بعض الشركات- مع تأسيس مناطق صناعية، وطرح حوافز وظيفية، ومراكز خدمات للشركات الناشئة، أو بمساعدة هذه الشركات الناشئة على التطور في إطار البلدية أو المقاطعة.
لكن ثمة تخوّف يظهر في مثل هذه الحالات، وهو التخوّف من أن تتمّ هذه المساعدات بشكل غير منظَّم، أو أن تنخرط الجماعات المحلية -في حالة تزايد البطالة- في دوامة تنافسية مكلفة من أجل جذب الشركات التي أنشئت دون مساعدة. ولكن في النهاية، يبدو أن النشاط التكميلي للجماعات المحلية في المجال الاقتصادي يعمل على تعويض هذه المخاطر، ويزيح هذا التخوّف.
- تمويل اللامركزية:
ما هي وسائل التمويل التي تعتمد عليها الجماعات المحلية؟ هذا السؤال غاية في الأهمية. الواقع أنه لا فائدة من منح الجماعات المحلية اختصاصات موسّعة إن لم يتوفر لديها إمكانيات للاضطلاع بها، أو إن استعادت السلطة المركزية اختصاصات تحديد السياسات المحلية التي منحتها للجماعات وذلك لأسباب متعلقة بالتمويل. ويمكن هنا التمييز بين الموارد الداخلية والموارد الخارجية. فالموارد الداخلية تتمثل في الإيرادات الناتجة عن استغلال الثروات والانتفاع بها، وعن الخدمات المقدمة، وتتمثل كذلك في الضرائب.
أما الإيرادات الناجمة عن استغلال ثروات الجماعة المحلية فيمكن أن تكون مرتفعة بشكل طردي مع صغر بلدية ما، إن كانت هذه البلدية تمتلك على سبيل المثال غابة واسعة تستغلها، أو أراضٍ تقوم بتأجيرها لمزارعين. غير أن هذه الإيرادات سرعان ما تعتبرها البلديات الكبرى هامشية، إذ تُقدر بثلاثة في المئة من الإيرادات العامة بالنسبة لبلدية تعدادها أكثر من عشرة آلاف نسمة.
وأما الإيرادات الناتجة عن الخدمات المقدمة فهي على سبيل المثال تلك المتعلقة باستخدام تجهيزات يبدو من الأفضل أن يدفع مقابلها من يستعملها بدلاً من أن يسدد كلفتها دافع الضرائب. والقانون هو الذي ينص أحياناً على ضريبة إجبارية على بعض الخدمات، كضريبة رفع النفايات المنزلية. وفي حالات أخرى تكون التجهيزات غير أساسية، كالتجهيزات الرياضية، فهذه أولى بأن يدفع كلفتها ورسوم تشغيلها من يستخدمها فقط.
وأما الضرائب فهي تمثل أكثر من نصف موارد الجماعات المحلية عادةً. ولا يمكن للجماعات المحلية أن تستحدث ضرائب جديدة، وإنما يمكنها فقط اختيار المعدلات الضريبية في الحدود التي ينص عليها القانون. في الأصل، كانت المجالس البلدية والمجالس العامة تصوت على ضرائب إضافية على الضرائب المحلية، وكان الناتج تحصله الدولة بشكل أساسي. أمّا اليوم فإنَّ الضرائب المحلية تُجبى فقط لصالح الجماعات المحلية. وهي تتمثل في الضرائب العقارية على الممتلكات، سواء تلك التي تم البناء عليها أو لم يتمّ. وهي ضرائب مفروضة على أصحاب البنايات المخصصة للسكن أو لهدف مهني، أو على أصحاب أراضٍ غير مبنية، كما تتمثل في الضريبة المفروضة على المقيمين في عقارات مؤثَّثة مخصَّصة للسكن، وتتمثل أخيراً في ضريبة مقار الشركات وضريبة القيمة المضافة.
أمّا معدلات هذه الضرائب فتحددها الجماعات المحلية، مع احترام الحدود القصوى التي تقدّرها الدولة أو المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فإن النسبة المقتطعة من القيمة المضافة للشركات -وهي جزء من ضريبة تُفرض على الشركات وتسمى “الإسهام الاقتصادي في الأقاليم”- تحددها الدولة على أساس نسبة 1.5 في المئة من الضريبة العقارية. تحصّل الجماعات المحلية كذلك بعض الضرائب غير المباشرة، كالضرائب المفروضة على تسجيل بعض الوثائق الرسمية. إضافةً إلى ذلك تقدّم الدولة للجماعات المحلية ما تم تحصيله من بعض الضرائب العامة التي تجنيها الحكومة المركزيّة.
أما الموارد الخارجية فهي تتمثل في الإعانات المقدمة بشكل أساسي من الدولة، ومن الاتحاد الأوروبي فيما يخص الأقاليم. وتدفع الدولة للجماعات المحلية منحاً عامة للتشغيل والاستثمار، ومنحاً خاصة على أنواع محددة من الاستثمارات، منها مثلاً التجهيزات المدرسية. لا أود الخوض في مزيد من التفاصيل حول تمويل الجماعات المحلية، فهي مادة غاية في التعقيد. فلنتذكر فقط أن نسبة اللامركزية تعتمد في هذا المجال على ما يأتي:
- نسبة الموارد التي تحصّلها الجماعات المحلية في مقابل الاختصاصات التي تضطلع بها.
- نسبة الاستقلالية التي تتمتع بها لدى تحديد حجم الموارد وتركيبها.
- طبيعة الموارد والاختصاصات التي تنقلها الدولة للجماعة المحلية.
- من اللامركزية إلى الفيدرالية: اختصاصات الإدارة وتحديد السياسات العامة وتكييف المعايير:
يستحق هذا الموضوع تطورات نظرية أطول، لكنني سأكتفي في هذه المرحلة بالإشارة إلى أن المستوى الأول من اللامركزية يتمثّل في نقل اختصاصات إدارية إلى جماعات محلية (منها على سبيل المثال إدارة الطرق، والمدارس، والمراكز الاجتماعية). وفي مرحلة ثانية يمكن تحديد السياسات المحلية في إطار سياسات وطنية تفرض نفسها إلى حد ما، ويأتي البعد المحلي مكملاً للبعد الوطني.أما المرحلة الثالثة فهي التي يمكن من خلالها لبعض الجماعات المحلية أن تقوم بتحديد المعايير الضابطة، بل والتشريعية المكملة أو البديلة للمعايير المتبعة على المستوى الوطني، وقد تقوم بتلك الخطوة من تلقاء نفسها أو بناء على تصريح من السلطة المركزية. وفي إطار هذه المرحلة الثالثة يرتسم الحد مع النظام الفيدرالي.
[1]– اعتمدتْ مترجمةُ النص المفردات والمصطلحات الواردة في الترجمة العربية للدستور الفرنسي على موقع المجلس الدستوري الفرنسي على الإنترنت.
وذلك توخيًا للاتساق في تسميات مختلف التقسيمات الإدارية الفرنسية.
[2]– ترجمة فرح أنطون، 1901.
[3]– وقعت معركة سيدان (شرق فرنسا) بين الإمبراطورية الفرنسية الثانية بقيادة الإمبراطور نابليون الثالث وبين بروسيا التي هزمت الجيوش الفرنسية، مما وضع حداً للإمبراطورية الفرنسية التي فقدت مقاطعتين لصالح البروسيين (ألمانيا الحالية) وعادت بذلك فرنسا إلى النظام الجمهوري. “المترجمة”
[4]– انظر المادة 72 من الدستور الفرنسي. “المترجمة”
[5]– انظر المادة 72 من الدستور الفرنسي.
[6]– نظرًا لحداثة مصطلح «pôle d’équilibre territorial et rural» لا توجد ترجمة معتمدة له. والمقصود هو جهة إدارية ترمي إلى التعاون بين عدة جماعات محلية معظمها من الأرياف لتيسير الشؤون الإدارية وتخفيف أعبائها .